التصنيفات
ردود لغويات مقالات

الرد على من أنكر وأد البنات في الجاهلية

أرسل إلي بعض الفضلاء مقطعًا حوارياً من إحدى القنوات الفضائية المشهورة بين متحاوِرَيْن حول موضوع (وأد البنات) في الجاهلية، وكان أحد المتحاوِرَيْن هو مَن تولى كبر الموضوع، وألّف فيه كتاباً ينكر ذلك، واصفًا إياه بالوهم! ويصف نفسه بـ(باحث في التراث وأستاذ الأدب العربي!).

وأما الآخَر الذي جِيءَ به للرد عليه فلا شيء معه سوى عبارات مكررة! لا تجدي في المحاجّة شيئًا، وهي التي ينبغي فيها قرع الحجة بالحجة! فظل يكرر (من سبقك؟ وكلامك أسقط من أن يسقط!) ونحو ذلك مما لا طائل تحته من الكلام الإنشائي المكرور!

والأول ينكر الوأد في الجاهلية قائلاً: إذا جئتموني بما يدل على وقوع ذلك في الجاهلية فكتابي وما فيه باطل!

وأقول: هو كذلك، بما يأتي من رد عليك، مستعينًا بالله:

1/ حديث (وأد البنات) صحيح، وهو في صحيح البخاري برقم 5975 وغيرهعن وراد ، عن المغيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهاتِ، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال، وإضاعة المال . صحيح البخاري ( 1477, 2408 ) صحيح مسلم ( 593 ) سنن الدارمي ( 2793 ) مسند أحمد ( 18147, 18179, 18191, 18230 وليس بمُدْرَج فيه كما قال الجاهل في الحديث الذي أنكر الوأد! ومعروف في مصطلح الحديث أن المدرج هو ما يقع من كلام راوي الحديث في متنه ولا يكون من كلام النبي ! فيحسبها من يسمعها مرفوعةً في الحديث فيرويها كذلك. (ينظر اختصار علوم الحديث لابن كثير وشرحه الباعث الحثيث ص 73 وفي الحديث المذكور رفع راويه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه النص إلى النبي صراحةً! فهل غاب ذلك عن كبار المحدثين الذين روَوْا الحديث بأسانيدهم كالبخاري ومسلم وأحمد! وعرفه هو؟!

2/ أما الآية الكريمة موضع النزاع قوله تعالى:﴿وَإِذَا المَوءودَةُ سُئِلَت ۝ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت﴾[التكوير: ٨٩] فيقول المنكِر : بأن السياق يتكلم على النفوس! والمراد بـ(الموؤودة) هنا النفوس عامةً! والجواب عن ذلك: أن الآية قبلها تكلمت على النفوس: ﴿وَإِذَا النُّفوسُ زُوِّجَت﴾ [التكوير: ٧] لكنه لا يعني هنا لمن عرف أسرار التعبير القرآني بأن المراد بـ(الموؤودة) هنا النفوس!

فلو تدبرنا السورة من أولها فكل آية تتحدث عن حدث من أحداث القيامة خاص مُصَدَّر بـ( إذا) يبدأ حدث آخر بعده مُصدَّر بها أيضاً مستقل عما سبقه! أما إذا كان متعلقاً به فتأتي الآية بعده موضحة له مفسِّرة غير مُصَدَّرة بـ(إذا)، كما في هذه الآية الكريمة، وهاكم الآيات نسوقها توضيحاً وتبياناً لما ذكرت، يقول تعالى: ﴿إِذَا الشَّمسُ كُوِّرَت ۝ وَإِذَا النُّجومُ انكَدَرَت ۝ وَإِذَا الجِبالُ سُيِّرَت ۝ وَإِذَا العِشارُ عُطِّلَت ۝ وَإِذَا الوُحوشُ حُشِرَت ۝ وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت ۝ وَإِذَا النُّفوسُ زُوِّجَت ۝ وَإِذَا المَوءودَةُ سُئِلَت ۝ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت ۝ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَت ۝ وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَت ۝ وَإِذَا الجَحيمُ سُعِّرَت ۝ وَإِذَا الجَنَّةُ أُزلِفَت ۝ عَلِمَت نَفسٌ ما أَحضَرَت﴾ [التكوير: ١١٤] فيعلم كل ذي لب ألا تعلّق بحَدَث سؤال الموؤودة بما قبله سوى الحدث العام وهو مشاهد القيامة! وإنما تعلقه الدلالي فبالسياق وحده الآتي بعده، وذلك بتبيان الله تعالى أن هذه الموؤودة سينتصر لها ممن ظلمها فقتلها بغير ذنب! فإذن هي خاصة بوأد البنات؛ لكثرة ما كان يقع ذلك في حقهن! ولا علاقة لمطلق النفوس بذلك! ؛ لأن المراد بقوله سبحانه (وَإِذَا النُّفوسُ زُوِّجَت) أي قُرنت بأمثالها ونظائرها، فالمؤمنون مع أمثالهم والمجرمون مع نظرائهم! قال البخاري في الصحيح:“وَقَالَ عُمَرُ : { النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } : يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ }، رواه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم، قال ابن حجر في فتح الباري 8/ 694:“وصله عبد بن حميد والحاكم وأبو نعيم في (الحِلية) وابن مردويه من طريق الثوريوهذا إسناد متصل صحيح”.

ثم إن القرآن نفسه يفسِّر بعضه بعضًا وهو أعلى مرتبة من مراتب التفسير! فذَكَر قضية الوأد صراحةً بأبين وصف! ذلكم في قوله سبحانه عن صنيع المشركين: ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدًّا وَهُوَ كَظيمٌ ۝ يَتَوارى مِنَ القَومِ مِن سوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمسِكُهُ عَلى هونٍ أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحكُمونَ﴾ [النحل: ٥٨٥٩]. فوصف الوأد صراحةً (يدسه في التراب)! وعلى هذا كل كتب التفسير، وأقاويل المفسرين فلتُنظر!

جاء في تفسير العز بن عبدالسلام رحمه الله: {الْمَوْؤودَةُ} المدفونة حية خوف سَبْيِها واسترقاقها أو خشية الفقر، وكان أشرافهم لا يفعلون ذلك! سُميت بذلك لموتها بثقل التراب:{ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} : [البقرة: 255] لا يثقله. {سُئِلَتْ} لِمَ قُتِلت؛ توبيخاً للقاتل، تقول: لا ذنب لي! وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {سَألتْ} أي: سألت قاتلَها: لِمَ قتلتَني؟! فلا يكون له عذر”. قلتُ: وقراءة (سألت) شاذة رويت عن عشرة من أصحاب رسول الله كما قال ابن خالويه في (مختصر في شواذ القراءات ص 334). ووجه شذوذها مخالفتها رسم المصحف المجمع عليه، والقراءات الشواذ مما يُستأنس بها في اللغة والتفسير كما هو معلوم عند فرسان هذا الميدان.

وأما قول الذي يصف نفسه بباحث بالتراث وأنه أستاذ الأدب العربي:(أعطوني ما يدل على أنهم فعلوا ذلك بالجاهلية وكتابي وكل ما فيه باطل)! فيكفيه وصف القرآن لهم بصريح اللفظ، وفي الشعروهو أوثق توثيق لتاريخ العرب قبل الإسلام، قول الفرزدق :

وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا

تِ فأَحْيَا الوَئِيدَ ولَمْ يُوأَدِ

يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جَدّ الفرزدق، فيفتخر بجده أنه منع هذه العادة الجاهلية البغيضة.(ينظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي). والبيت في ديوانه ص 173 ط دار صادربيروت. فظهر الحق وبطل ما صنع صاحب الكتاب وكتابُه وما فيه كما أقر هو نفسه!

3/ ثم إن القرآن تكلم على قتل الطفل عامةً سواء أكان ذكراً أم أنثى! خوف الانفاق عليه بسبب الفقر أو خشية وقوعه! ويدخل فيه إجهاضه بعد 4 أشهر بعد نفث الروح فيه، فيدخل فيه كما يحصل اليوم! ولا يدخل فيه تحديد النسل أو تنظيمه!

كقوله سبحانه: ﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ﴾ [الأنعام: ١٥١].وقوله سبحانه: ﴿وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم خَشيَةَ إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُهُم وَإِيّاكُم إِنَّ قَتلَهُم كانَ خِطئًا كَبيرًا﴾ [الإسراء: ٣١] ، ومعلوم في اللغة أن لفظ (الولد) يُطلق على الذكر والأنثى سواء بسواء .

﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَو كَرِهَ المُجرِمونَ﴾ [يونس: ٨٢]

هذا، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

تعليقين على “الرد على من أنكر وأد البنات في الجاهلية”

التعليقات مغلقة.