التصنيفات
مقالات

تسويغ الحرام…!

يحلو لأكثرهم أن يسوِّغ أكل الحرام لنفسه ولعياله!

فإن سألتَه كيف تستسيغ ذلك؟!

فيسارع بحجة قالها أهل الشرك قديماً…: كلهم يفعل ذلك، أو : إن لم أفعله فغالب الناس يفعلونه، أو يقول: إن لم أفعله فسيفعله غيري!

أو يقول: بأن هذه الشركة التي تقدم له خدمةً ما كالماء أو الكهرباء أو الاتصالات ونحوها، أو حتى الشركة التي يعمل فيها قد غبنته ظناً أو يقيناً في أجر ما أو غير ذلك، فيسوق مِن تلكم الحجج الأهوائية الواهية، التي تزينها النفس الأمارة بالسوء.

ومَرَدّ الوقوع في أكثرها عدم الفقه في الدين أساساً، أو عدمُ الرغبة في التفريق بين الحلال والحرام لهوىً مُتَّبع! وإلا فالحلال بيِّن وكذلك الحرام، كما جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشَبَّهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمَن اتقى المشَبَّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنَّ لكل ملك حمًى، ألا إنّ حمى الله في أرضه محارمُه، ألا وإنّ في الجسد مضغةً إذا صَلَحت صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب . صحيح البخاري ( 52 ). وفي رواية أخرى للبخاري (2051): قال النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كان لما استبان أتْرَك، ومَن اجترأ على ما يَشُكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، مَن يرتعْ حول الحمى يوشكْ أن يواقعه .

وهنا لا بد من إيضاح مدى خطر هذا الوباء الذي تفشى في مجتمعاتنا وياللأسف. وإيضاح خطورته حالاً ومستقبلاً على المبتلَى به، وعلى مَن يعُول ابتداءً، ثم على المجتمع انتهاءًفأقول:

1/ لا يُعذر المسلم بجهله في مُهمّات الدين وأحكامه، ولا سيما العبادات والمعاملات وأحكام الحلال والحرام! فإن خفي عليه شيء، كان لزامًا عليه أن يسأل أهلَ الذكر كما قال الله سبحانه: ﴿وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ إِلّا رِجالًا نوحي إِلَيهِم فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ﴾ [النحل: ٤٣].

ولذلك كان مِن توفيق الله تعالى لعبده أن يتفقه في الدين! كما أخبر به النبي : مَن يرُدِ الله ُبه خيراً يفقهّْه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمةً على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله . صحيح البخاري (71).

وجاء عن بعض السلف قوله: فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد”! (لا يصح مرفوعاً وإنما هو من قول الزهري كما قال المنذري في الترغيب 1/ 61).

2/ من تلبيس إبليس على مَن يتحجج في أكل هذه المحرمات أنها رد لبعض ما فعلته هذه الشركات من أكل الحقوق وسرقة الأموال الخ!

وهذه حجج إبليسية يُزيِّنها لهم؛ ليستسيغوا الولوغ فيها! فإن كان ذلك كذلك، وكانت هذه الشركات ونحوها ممن يمارس أكل أموال الناس بالباطل! فهذا لا يسوِّغ أن نعاملها بالمثل! فمَن رأى أنه مغبون بها فليستغنِ عن خدماتها، ولينصرف إلى غيرها إن وجد! وإلا فلا يسوِّغ لنفسه المعاملة بالمثل؛ لأنه بذلك ينحط إلى مستواها باللصوصية وخيانة الأمانة! وقد قال رسول الله : أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخُنْ مَن خانك”. (سنن أبي داود 3535، وغيره، وهو حديث صحيح بطرقه كما قال الألباني في إرواء الغليل 1544).

فلتأكل هذه الشركات أموال الناس بالباطل! ولكن لا نعاملها بالمثل فنكون مثلَها! فلنتركها تأكل الحرام، ونعاملها بالعقود التي بيننا وبينها كما أمر الله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَوفوا بِالعُقودِ﴾ [المائدة: ١] وإثمها على القائمين عليها، مع تعاهدنا لها بالنصيحة والأمر بالمعروف.

فإن كان أحدهم يعمل في شركة ما، ووقع له الأمرُ نفسُه فلا يسوِّغَنَّ لنفسه الوقوع في الحرام بالحجج ذاتها! فخيرٌ لك أن تفارق؛ على أن توصف بالسارق!

ثم إن المظلوم عامة وفقاً للمنظور الإسلامي فائز في كل الأحوال! ففي الدنيا له دعوة على ظالمه ليس بينها وبين الله حجاب، فعَنِ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ : اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ .(رواه البخاري 2448 إضافةً إلى أجره في ترك الحرام ومقابلة الإثم بالإثم، والبركة الحاصلة له جراء ذلك، كما جاء في الحديث : “إنَّك لنْ تَدَعَ شَيئًا للهِ إلَّا بدَّلَك اللهُ به ما هو خَيرٌ لك منه” (أخرجه أحمد برقم: 23074 بإسناد صحيح كما قال محققوه).

أما في الآخرة فسيأخذ مِن حسنات مَن ظلمه بقدر مظلمته، فإن لم يكن لديه حسنات أُخذ من سيئات المظلوم فطُرحت على الظالم! فيزداد آثاماً وأوزاراً وعذاباًفليس ثمة دينار ولا درهم!

وصوَّر هذا المعنى حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله :“مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه”(أخرجه البخاري 6534).

3/ خطر أكل السحت فيه من المهلكات ما تُكتب فيه مجلدات! من أهمها التعرض لمقت الله وغضبه بالتشبه باليهود (وهم المغضوب عليهم كما في حديث عدي بن حاتم أن النبي قال: “المغضوبُ عليهم : اليهودُ، والضَّالُّون : النَّصارى”(رواه ابن حبان في صحيحه 6246 وقال محققه شيخنا شعيب: حديث حسن لغيره)، وقد وصفهم القرآن بذلك: ﴿سَمّاعونَ لِلكَذِبِ أَكّالونَ لِلسُّحتِ﴾ [المائدة: ٤٢].

علاوةً على ذلك فخطر الحرام يتعدى إلى الأهل والعيال! فهم أمانة وسيُسأل عنها راعيها، فمن حقهم عليه أن يطعمهم ما أحل الله لا يتعداه إلى ما حرم ولو بشبهة! فإن الشبهات أُلحقت بالحرام على ما مر في حديث النعمان الذي هو أصل من أصول الإسلام كما قال شُرّاحه.

وهو بفعله المشين وقع في مصيبتين: أولاهما خيانة أمانة مَن استرعاه الله عليهم، والأخرى: حمل أوزارهم مع وزره! ولك أن تزيد ثالثة الأثافي فتقول: اكتسابه إثماً مستمراً إنْ قلَّده بما يفعل مِن أكل الحرام أحدُ عياله بعد أن يخرج من نفقته؛ فيكتسب خطيئةً على خطيئاته! عياذاً بالله. وقد رأيتُ مثل ذلك في المجتمع.

ويحضرني هنا حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في مسند أحمد برقم(15284 عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا كعب بن عُجْرة، أُعيذك بالله من إمارة السفهاء . قال : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : أمراء سيكونون مِن بعدي، مَن دخل عليهم فصدقهم بحديثهم، وأعانهم على ظلمهم فليسوا مني ولستُ منهم، ولم يَرِدوا عليَّ الحوض، ومَن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بحديثهم، ولم يُعنْهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وأولئك يَرِدون عليَّ الحوض، يا كعب بن عجرة، الصلاة قربان ، والصوم جُنّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يُطفئ الماءُ النار، يا كعب بن عجرة، لا يدخلُ الجنةَ مَن نَبَت لحمُه مِن سُحْت ، النار أولى به، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان ؛ فغادٍ بائعٌ نفسَه، وموبِقٌ رقبتَه، وغادٍ مبتاعٌ نفسَه، ومعتِقٌ رقبتَه . (قال شيخنا شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم)، ولا تضاد بينه وبين قوله تعالى : ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُم مَرجِعُكُم فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾ [الأنعام: ١٦٤]؛ فيُحمل الوعيد في حديث كعب على مَن جاء بالحرام وركن إليه ورضي به؛ ومات عليه، فيَحمِل وزرَه ووزر َمَن يَعُول كما تقدم. وحاشى أن يعذِّب الله نفساً بذنبِ أخرى.

4/ وفوق ما ذُكر ما يمتد أثرُه المدمر في المجتمع مِن شيوع الخيانة، وأكل السُّحت، والسرقة، وتسويغ الحرام، وانتشار معاني الشؤم هذه مؤْذِنةٌ بالفتك بالمجتمع، وتسريع عقابه، بعد أن عرَّضَ نفسَه لسخط الله تعالى.

ولك أن تتَصَوَّر الآثام والأوزار التي سيحملها كلُّ مَن يفعل ذلك ولو بشبهة؛ فيزينها لغيره فيقتدي به فيفعل فِعْلَه! كما قال النبي : مَنْ سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”. صحيح مسلم ( 1017 ).

أضف إلى ذلك انتشار الظلم وغياب العدالة في المجتمع! فغالب الشركات التي يقع فيها مثلُ ما ذكرت، تُحمِّل الملتزمين بعقودهم معها وزر َ غير الملتزمين! وهذا يؤدي إلى وقوع الظلم على الملتزمين بعقودهم من المؤمنين. فيتحملون ما سرقه غيرُهموهكذا دواليك حتى يتضاعف عليهم الظلم، ويتضاعف على هؤلاء الوِزْر! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وصدق الله حيث قال: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا أُولئِكَ الَّذينَ لَم يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلوبَهُم لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ﴾ [المائدة: ٤١].

ولا ريب أن من فتن هذا الزمان ما أخبر عنه النبي بقوله:“لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ”. (رواه البخاري 2083).

ومَن يؤمنْ بالله يهدِ قلبَه.

3 تعليقات على “تسويغ الحرام…!”

نعم صحيح ويقول هؤلاء هذا شطارة. الله المستعان. احلى تحية لكم اخي الحبيب ابو عبدالله

التعليقات مغلقة.