التصنيفات
مقالات

القول الثابت

يغفل بعضنا عن مفهوم (القول الثابت) في الكتاب والسنة! ويمر عليها مراً سريعاً!

مع أن الثبات على الدين الحق غاية مَن هداه الله إليه؛ وثمرته الثواب العظيم، في جنات النعيم.

ولذلك “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ أنْ يقولَ: يا مُقَلِّبَ القُلوبِ، ثَبِّتْ قَلْبي على دينِكَ. فقال له أصحابُه وأهْلُه: يا رسولَ اللهِ، أتَخافُ علينا وقد آمَنَّا بك وبما جِئتَ به؟ قال: إنَّ القُلوبَ بيَدِ اللهِ يُقَلِّبُها”. (رواه أحمد في المسند 13696 وقال شيخنا شعيب الأرناؤوط في تخريجه :إسناده قوي على شرط مسلم، وأخرجه الترمذي 2140).

فالثبات على الدين محور عملية التدين كلها!

وجاء التعبير القرآني عنها بالفعل المضارع (يثبت)، واسم الفاعل (ثابت) في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظّالِمينَ وَيَفعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ [إبراهيم: ٢٧].

فالفعل يدل على التجدد، واسم الفاعل يدل على الثبوت! وفي ذلك ملحظ دلالي بلاغي يومئ إلى أن عملية الثبات لا محيص عنها في كل الأحوال والظروف؛ كي يحظى المؤمن بغايته وهي: (القول الثابت)!

فثبات المؤمن متجدد (يثبت الله الذين آمنوا) في الحياتين: الدنيا والآخرة، فعبر عنه بالفعل، وأما القول الثابت فهو كلمة التوحيد التي هي حق الله على العبيد، ولا بد من الدوام عليها قولاً وعملاً، ولاءً وبراءً، أو بعبارة أخرى ذكراً وعملاً بمضمونها! فعبر عنها بالاسم. وهي ثمرة الخلق، وعلة الوجود: ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].

جاء في تفسير البغوي:“قوله تعالى: {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ}، كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله {فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يعني قبل الموت، {وَفِى ٱلأَخِرَةِ}، يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير. وقيل: {فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} عند السؤال في القبر، {وَفِى ٱلأَخِرَةِ} عند البعث. والأول أصح”.

وأورد ابن كثير في تفسيره حديث البخاري والجماعة في تفسيرها فقال:“قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلأَخِرَةِورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به”.

وقال الثعالبي في الجواهر الحسان:“وقوله سبحانه: {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلأَخِرَةِ }: {ٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَوةِ ٱلدُّنْيَا}: كلمةُ الإِخلاصِ والنجاةِ من النَّار: «لا إِلٰه إِلا اللَّه»، والإِقرارُ بالنبوَّة، وهذه الآية تعمُّ العالَمَ مِنْ لدنْ آدم عليه السلام إِلى يوم القيامةِ. قال طَاوُوسٌ، وقتادة، وجمهور من العلماء: {ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } هي مدَّة حياةِ الإِنسان، {وَفِي ٱلأَخِرَةِ } وَقْتُ سؤاله في قَبْرِهِ، وقال البَرَاء بنَ عَازِبٍ وجماعة: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }: هي وقتُ سؤاله في قَبْره، ورواه البَرَاءُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في لفظ متأوَّلٍ، وفي الآخرة: هو يوم القيامة عندَ العَرْض، والأولُ أحسن، ورجَّحه الطبريُّ”.

قلت: ومما يؤيد القول بأن المراد بتفسير الثبات في الآخرة بأنه سؤال الملكين في القبر، حديث هانئٍ مَوْلى عثمانَ، قال: كان عثمانُ إذا وقَف على قبرٍ بكَى، حتى يبُلَّ لِحيتَه، فقيل له: تذكُرُ الجنَّةَ والنارَ فلا تَبكِي، وتَبكِي مِن هذا؟! فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: “القبرُ أوَّلُ مَنازِلِ الآخِرةِ، فإنْ يَنْجُ منه فما بعدَه أيسَرُ منه، وإن لم ينجُ منه فما بعدَه أشَدُّ منه، قال: وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما رأيتُ منظرًا قطُّ إلَّا والقبرُ أفظَعُ منه”(رواه عبدالله بن أحمد في زوائد المسند برقم: 454 ، وقال شيخنا شعيب الأرناؤوط في تخريجه: إسناده صحيح، وكذا قال العلامة أحمد شاكر في تحقيق المسند 1/225، وأخرجه الترمذي (2308 وابن ماجه (4267 وهو في صحيح الترغيب 3550).

فدل هذا الحديث على أن سؤال الملكين عن الشهادتين في القبر هو في الآخرة! لأنه يعد أول منازلها.

أسأل الله تعالى لي ولكم الثبات على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.