التصنيفات
لغويات مقالات

مع الإمام الشافعي…
هل في القرآن شيء ليس من لغة العرب؟

مسألةً يُثيرها بعضُهم قديمًا وحديثاً: هل في القرآن شيء ليس من كلام العرب؟

وأفضل وأجل مَن يجيب عن ذلك مَن كانت لغتُه حجةً، وأسَّس علم أصول الفقه، وهو الإمام الشافعي الذي قال عنه ابنُ هشام صاحبُ السيرة الشهيرة: “الشافعي كلامُه لغةٌ يُحتج بها”، وإمامُ الأدب وروايةِ الشعر الأصمعيُّ يقول: “صحَّحتُ أشعار هُذيل على فتىً مِن قريش يُقال له: محمد بن إدريس الشافعي! وقال عنه إمام الأدباء الجاحظ:“نظرت في كتب هؤلاء النَّبَغَة الذين نبغوا في العلم، فلم أرَ أحسن تأليفاً من المُطَّلِبي! كأنّ لسانه ينظم الدر”(مقدمة الرسالة لمحققها العلامة أحمد شاكر رحمه الله ص14 يقول الشافعي رضي الله عنه: فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا .

وقد تكلّم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به وأقربَ مِن السلامة له إن شاء الله.

فقال منهم قائل: إنّ في القرآن عربيًا وأعجميًا! والقرآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجَد قائلُ هذا القول مَن قَبِل ذلك منه، تقليداً له، وتركًا للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممَّن خالفه، وبالتقليد أغفل مَن أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم.

ولعل مَن قال : إن في القرآن غيرَ لسان العرب وقُبل ذلك منه : ذهب إلى أنّ مِن القرآن خاصًا تجهل بعضَه بعضُ العرب .

ولسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهباً، وأكثرُها ألفاظًا، ولا نعلمُه يُحيط بجميع علمه إنسانٌ غــــيرُ نبيّ، ولكنه لا يذهب منه شيءٌ على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها مَن يعرفُه” (الرسالة 41-42).

إلى أن يقول:“وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها : لا يذهب

منه شيءٌ عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا مَن قَبِلَه عنها، ولا يَشْرَكُها فيه إلا مَن اتبعها في تعلمه منها، ومَن قَبِلَه منها فهو من أهل لسانها .

وإنما صار غيرهم مِن غير أهله بتركه، فإذا صار إليه، صار من أهله

فإن قال قائل : فقد نجد من العجم مَن ينطق بالشيء من لسان العرب!

فذلك يحتمل ما وصفتُ مِن تعلّمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومَن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه .

ولا ننكر إذ كان اللفظ قيل تعلمًا أو نُطق به موضوعًا أن يوافق لسانُ العجم أو بعضُها قليلاً من لسان العرب، كما ياتَفِقُ القليلُ من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأواصر بينها وبين مَن وافقت بعضَ لسانِه منها. (الرسالة 44- 45).

وهذا الذي أشار إليه الإمام الشافعي هو ما عرفه الدرس اللساني الحديث بعد ألف وثلاثمئة سنة فيما يُعرف بـ(تلاقي اللغات)!

ويُلاحظ تقريره بأن من تكلم بلسان العرب صار من أهله.

ثم يبرهن رحمه الله على ما أكده في أن ليس في القرآن شيء بغير لسان العرب فيقول:“فإن قال قائل : ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلطه فيه غيرُه ؟

فالحجة فيه كتاب الله . قال الله : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) . فإن قال قائل : فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة ، وإن محمداً بعث إلى الناس كافة ـ :فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة ، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه ، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم : فهل من دليل على أنه بُعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟فإذا كانت الألسنة مختلفةً بما لا يفهمه بعضهم عن بعض: فلا بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض ، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبع على التابع.

وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُه لسانُ النبيّ. ولا يجوز ـ والله أعلم ـ أن يكون أهلُ لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسانٍ تبعٌ للسانه، وكلُّ أهلِ دينٍ قبلَه فعليهم اتباعُ دينه.

وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه :قال الله : إنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذِرين . بلسان عربي مبين).وقال : ( وكذلك أنزلناه حكما عربيًا)، وقال (وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًا لتنذر أم القرى ومَن حولها) وقال:(حم، والكتاب المبين، إناجعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون). وقال : (قرآنًا عربيًا غيرَ ذي عوج لعلهم يتقون) .

قال الشافعي : فأقام حجته بأن كتابه عربي، في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ـ جل ثناؤه ـ كلَّ لسان غيرِ لسان العرب، في آيتين من كتابه : فقال تبارك وتعالى : (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين) . وقال : ( ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا لقالوا لولا فصلت آياته، أأعجمي وعربي)”. (الرسالة 45-47).

وأقول لمن يتفذلك بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير مدعيًا بأن بعضاً من الألفاظ الواردة في القرآن ليست من لغة العرب بل بلغات غيرها كلفظ: ( فردوس ) و( أباريق) ونحوها: ما المانع بأن تكون هذه الألفاظ مما تكلمت به العرب وغيرهم؟! فتلاقت لغات الناس فيها! وهذا معلوم في الدرس اللساني قديماً وحديثاً!

ولأن لسان العرب متقدم على غيره تاريخيًا كما برهنتُ في مقالة سابقة بعنوان( رؤية في اللغة العربية) فالناس تبع له ولا عكس! كما كانوا تبعاً للنبي الناطق به عليه أفضل الصلاة والسلام في الإيمان به وبرسالته.

وقد مر بنا كلام الشافعي رحمه الله بأنَّ لسان العرب أوسعُ الألسنة ولا يحيط به إلا نبي! أفيعقل أنَّ لساناً هذا وصفه أن يأخذ ممن دونه؟!

بل أيعقل أن الله تعالى المتكلم بالقرآن وَوَصَفَه بما فَهِمَ منه أهلُ اللغة الأقحاح بأنه بلسان عربي لا سبيل للعجمة فيه بأن يأتي فيه بألفاظ ليست منه بل بألسنة أخرى؟!

﴿ما لَكُم كَيفَ تَحكُمونَ﴾ [الصافات: ١٥٤].

ثم يختم هذا الإمام العظيم كلامه النوراني بالتذكير بأن من نعم الله تعالى على عباده ما اختصهم به من الهداية بنبي منهم وبلسانهم، قال الشافعي : “وعَرَّفنا نِعَمَه بما خَصّنا به مِن مكانه، فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وقال: (هو الذي بعث في الأمّيّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ).

وكان مما عَرَّف اللهُ نبيَّه مِن إنعامه أنْ قال :( وإنه لذِكْرٌ لك ولقومك) فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه . وقال: ( وأنذر عشيرتك الاقربين)، وقال: ( لتنذر أم القرى ومَن حولها). وأم القرى: مكة، وهي بلدُه وبلدُ قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنذروا بلسانهم العربي لسانِ قومه منهم خاصة” (الرسالة 47- 48).

وقد قرر الشافعي بعد أن ساق هذه الحقائق بأنه لا مناص من تعلم لسان العرب لمن أراد فهم كتاب الله تعالى، ومعرفة وجوهه، وأنّ هذا هو السبيل؛ لئلا تنزلقَ قدمُه، ويضلَّ فهمُه؛ فيقعَ فيما وقع فيه مَن جهل هذا اللسان، فتوالت عليه الشبهات، وتتابعت عليه الضلالات.

قال:“وإنما بدأتُ بمـا وصفتُ من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره : لأنه لا يَعلم مِن إيضاح جُمل علم الكتاب أحدٌ جهل سعةَ لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجماعَ معانيه وتفرقَها . ومَن عَلِمَه انتفت عنه الشُّبَهُ التي دخلت على مَن جَهِلَ لسانَها” (الرسالة 50).

ويختم رحمه الله هذه السلاسل التي مِن ذهب، ببيان أنها نصيحة تجب، في حق مَن للإسلام انتسب، فقال: “فكان تنبيهُ العامة على أنّ القرآن نزل بلسان العرب خاصةً نصيحةً للمسلمين. والنصيحةُ لهم فرضٌ لا ينبغي تركُه، وإدراكُ نافلةِ خيرٍ لا يدعها إلا مَن سَفِه َنفسَه، وتَرَكَ موضعَ حظِّه . وكان يجمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حق. وكان القيام بالحق ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله . وطاعة الله جامعة للخير.“الرسالة 50.

فهل بقي بعد بيان هذا الإمام من شُبَهٍ؟!

وهل أبقى للخرّاصين ما يُقال؟

﴿وَهُم يُجادِلونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَديدُ المِحالِ﴾ [الرعد: ١٣].

5 تعليقات على “مع الإمام الشافعي…
هل في القرآن شيء ليس من لغة العرب؟”

التعليقات مغلقة.