التصنيفات
لغويات مقالات

رؤية في اللغة العربية

هذا مقال مجمل لكتاب مفصل أسأل الله تعالى العون فيه.

وهنا سأذكر أفكاراً رئيسة، وخطوطًا عريضة، تبين ملامح الأفكار التي أروم بيانها وطرحها في مجال لغتنا العربية الجميلة.

من هذه الأفكار

أن اللغة العربية أقدم من العرب والخلق جميعًا، بدليل نزول القرآن بها، والقرآن كما وصفه الله تعالى:﴿بَل هُوَ قُرآنٌ مَجيدٌ ۝ في لَوحٍ مَحفوظٍ﴾ [البروج: ٢١٢٢].

وهو كلام الله الذي تكلم الله به وجعله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق آدم والخلق آجمعين.

وكنتُ قد برهنتُ في مقالة سابقة على أنّ العربية هي لغة الملأ الأعلى!

وبناءً على ما تقدم

فأزعم أن العربية هي اللغة التي علّمها اللهُ تعالى آدم عليه السلام بعد خلقه، حتى أنّ اسمه مشتق من العربية، وهو من (الأَدَمَة) بمعنى: السُّمرة أو من الأدمة وهي: القشرة الداخلية للأرض، ويقال هي التي خلق منها .(ينظر:مقاييس اللغة ومختار الصحاح)، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنبِئوني بِأَسماءِ هؤُلاءِ إِن كُنتُم صادِقينَ﴾ [البقرة: ٣١]، وهي الكلمات من اللغة ذاتها التي علمها إياه بعدما عصاه؛ ليعرف كيف يتوب؟ فيتوب الله عليه، وقد كان: ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ﴾ [البقرة: ٣٧]. واستعمل لفظ ( كلمات) ؛ لأن الكلمة في اللسان العربي تشمل: الاسم والفعل والحرف، فاستعمالها غاية في دقة التعبير؛ لاشتماله على كل ما يلزم لبناء التركيب اللغوي السليم.

ثم إن الله تعالى قرر في كتابه الحكيم بأنه أرسل الرسل بلغات أقوامهم فقال: ﴿وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إِلّا بِلِسانِ قَومِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ وَيَهدي مَن يَشاءُ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [إبراهيم: ٤].

وقد أرسل الله النبي محمداً للناس كافة إنساً وجناً :﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشيرًا وَنَذيرًا وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾ [سبأ: ٢٨].

وكان لسان النبي عربياً وهو خاتم الأنبياء والمرسلين. وهي إشارة إلى أن هذا اللسان العربي المبين هو اللسان المعتمد في خطاب الناس جميعًا من عهد آدم أول الأنبياء، وصولًا إلى خاتمهم ﷺ، وكأن الخالق جلت قدرته يقول لنا : بدأتُ خلقكم بهذا اللسان ثم ختمتُ باب النبوة به!وبينهما تنوعت اللغات، واختلفت الألسن! وكأن هذا اللسان ينتظم الناسَ جميعًا. وأودِعت فيهم فطرةُ حبه وتعلمه وقبوله!

يقول الإمام الشافعي رحمه الله:“فإذا كانت الألسنة مختلفةً بمالا يفهمه بعضُهم عن بعض : فلا بد أن يكون بعضُهم تبعًا لبعض ، وأن يكون الفضلُ في اللسان المتَّبَع على التابع. الرسالة 46 .

وهنا يتفرع فرع فقهي، وهو وجوب أن يتعلم المسلم ممن لا يعرف هذا اللسان ما يقيم به أمر دينه! فالصلاة لا بد فيها من قرآن، وقراءة سورة الفاتحة تحديداً في كل ركعة، ولا تصح بغير هذا اللسان على الصحيح! يقول الإمام الشافعي:“فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جَهدُه، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، و يتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افتُرض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك. وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله اللهُ لسانَ مَن خَتم به نبوتَه ، وأنزل به آخرَ كتبه : كان خيرًا له . كما عليه يتعلمُ الصلاةَ والذكر فيها، ويأتي البيت وما أُمر بإتيانه، ويتوجّه لما وُجِّهَ له . ويكونُ تبعًا فيما افتُرض عليه ونُدب إليه ،لا متبوعًا .“الرسالة48-49

ولو كانت هذه اللغة كغيرها من اللغات لَما كان لوجوب ذلك داعٍ. فكان يُجزئ مَن آمن بهذا الدين أن يتعلمه، ويقرأ في صلاته بلغته وانتهى الأمر!

ولأنّ هذه اللغة العظيمة لها خصوصية وقدسية، وأنها ليست كسائر لغات الناسكان لها من الأحكام والقوانين الكونية ما ليس لسواها! وهذا معلوم بالواقع! فدُلَّني على لغةٍ بقيت ثابتةً بكل مستوياتها اللسانية المعروفة: الصوتية والبنيوية والتركيبية والدلالية، أكثرَ مِن خمسة عشر قرناً ؟! فما زلنا نستمع إلى المجيدينوإن كانوا قلةً ممن يقرؤون القرآن بأصوات العربية الفصيحة كما وصفها الخليل بن أحمد في القرن الثاني الهجري، ونقرأ أشعار مَن عاشوا قبل الإسلام، ونفهم شعرهم، ومازال الفاعل والمفعول والجار والمجرور والمبتدأ والخبر والتابع والمتبوع هو هو لم يطرأ عليه أي تغيير! فهل توفر هذا للغةٍ سوى هذه اللغة الشريفة؟! قطعاً: لا.

أما قدسية هذه اللغة الشريفةفاكتسبتْها من نزول القرآن الكريم بها؛ ولأنها لسان نبينا محمد ﷺ؛ ولذلك فقد تكفّل اللهُ العظيمُ بحفظه بنفسه جل وعلا! ولم يَكِلْ هذا الأمر لأيٍّ كانلا لنبي مرسل ولا لملك مقرب، ولا لعبد منيب!

إذا أخذنا هذه الملاحظ مجتمعةً فسوف نخلص إلى أنّ العربيةَ سابقةٌ العربَ! بل البشرَ، لا، بل الخلقَ جميعًا! كيف لا وقد كانت في اللوح المحفوظ؟!

ومِن ثَمَّ فليست العربية بالمفهوم السابق لغةً قوميةً تخص قوماً بعينهم، بل هي لسانٌ عالميٌّ يُنسب إليه كلُّ مَن تكلم به! كائناً من كان ينتظم الإنس والجن جميعًا. وهذا يتناغم تماماً مع سمات رسالة النبي محمد في العالمية، لا القومية التي كانت من خصائص رسالات الرسل قبله!

ولَمّا كانت رسالة نبي الإسلام محمد للناس كافةً ناسب أن تكون بلغةٍ لها خصوصيةٌ عالميةٌ لا تخص قوماً بعينهم! بل كانت لغةً وَعَتْ سمات الجمال، وصفات الكمال، وهو المقام الذي يليق بمقام الربوبية، فكان كلامُ الله بها في اللوح المحفوظ منذ الأزل!

وهذا يدلنا على أنّ العرب يُنسبون إلى اللغة العربية وليس العكس! فالنسبة للأصل المتقدِّم لا الفرع المتأخِّر.

ومادة (عرب) كما تخبرنا معاجم اللغة في أصلها تدل على الفصاحة والبيان. (يُنظر: مقاييس اللغة لابن فارس).

وقد وَصف اللهُ تعالى كتابَه بـ(العربي المبين) أي: الفصيح البليغ، ويقابله (الأعجمي) أي: الذي لا يبلغ من الفصاحة والبيان والبلاغة والإعجاز والإيجاز ما بلغه اللسانُ المبينُ المنعوتُ بأنه عربي! يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقولونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلحِدونَ إِلَيهِ أَعجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ﴾ [النحل: ١٠٣].

فالعرب بقبائلهم المتعددة نُسبوا إلى العربية لأنها وُجدت قبلهم أساسًا، وهم أنفسُهم سُمُّوا عرباً؛ لتكلمهم باللسان العربي الفصيح المبين. فاكتسبوا بذلك نسبةَ تشريف! وكذا كل مَن تعلّم هذا اللسان وتكلّم به؛ فقد صار من أهله، منسوبًا إليه، متشرفاً به، بناءً على هذا الملحظ اللغوي المحض.

ويجلو هذا المعنى الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله فيقول: “وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها : لا يذهب منه شيءٌ عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا مَن قَبِلَه عنها، ولا يَشْرَكُها فيه إلا مَن اتبعها في تعلمه منها، ومَن قَبِلَه منها فهو من أهل لسانها .وإنما صار غيرهم مِن غير أهله بتركه، فإذا صار إليه، صار من أهله”( الرسالة 44) .

وهناك ملحظ آخر قدسي! فالمتكلم باللسان العربي يتشرف ويتبرك باللسان الذي تكلم الله به، والذي أنزل خير كتبه على خير رسله وخلقه به. فالمتكلم بهذا اللسان الشريف لا يخلو من نسبة التشريف من أحد هذين الملحظين، أو كليهما، بحسب نظرته إلى هذا اللسان! فمَن رام الفصاحة والبيان، فقد حاز شرفَهما، وهذا واقع معروف مشاهَد، فكم مِن غير المسلمين مَن تعلّم هذا اللسانَ المبينَ حباً فيه، بل بعضهم كان عالماً مصنِّفاً فيه كالأب أنستاس الكرملي ولويس معلوف وبطرس البستاني، وغيرهم الكثير!

وأما إن كان متعلِّمُه أكثرَ إيماناً وتصديقًا فتعلَّمَه وتكلَّم به قربةً لله وتبركاً وتشرفاً به، لأنّ الله سبحانه تكلّم به؛ فقد حاز الشرف من كل أقطاره، وسائر أركانه. يقول الإمامُ الشافعي رحمه الله:” وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُه لسانُ النبيّ. ولا يجوز ـ والله أعلم ـ أن يكون أهلُ لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسانٍ تبعٌ للسانه، وكلُّ أهلِ دينٍ قبلَه فعليهم اتباعُ دينه”. ( الرسالة 46).

وقد ورد حديث مرفوع في هذا المعنى وإن كان ضعيفًا بيد أن معناه صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. فعن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ قال : “جاء قيسُ بنُ حطاطةَ إلى حلقةٍ فيها صهيبٌ الروميُّ، وسلمان الفارسيُّ، وبلالٌ الحبشيُّ، فقال : هذا الأوسُ والخزرجُ قد قاموا بنصرةِ هذا الرجلِ فما بالُ هؤلاء ؟ فقام معاذُ بنُ جبلٍ فأخذ بتلابيبهِ، ثم أتى بهِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأخبره بمقالتِه، فقام النبيُّ مغضبًا يجرُّ رداءَه حتى دخل المسجدَ، ثم نودي : أنَّ الصلاةَ جامعةٌ، فصعِد المنبرَ، فحمد اللهَ وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : أيها الناسُ، فإنَّ الربَّ واحدٌ، والأبُ أبٌ واحدٌ، والدِّينُ دينٌ واحدٌ، وإنَّ العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا بأمٍّ، إنما هي لسانٌ، فمن تكلمَ بالعربيةِ فهو عربيٌّ، فقام معاذُ بنُ جبلٍ فقال : بم تأمرُنا في هذا المنافقِ ؟ فقال : دعْهُ إلى النارِ . فكان قيسٌ ممنِ ارتدَّ فقُتل في الرِّدةِ”.

عَقّب عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 460، فقال: “ضعيف، وكأنه مركَّب على مالك، لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه”.

ولا يفهمَنْ أحدٌ من كلامي السابق على قدسية اللغة ذاتِها أنه ينسحب على علومها التي تكوّنت فيما بعد، مِن : نحو وصرف وبلاغة وفقه لغة ومعاجم الخ! بل هذه علوم وضعها بَشرٌ اجتهدوا وحازوا الفضل في العلم والسبق، ولغيرهم أن يجتهد في طرائق تعليم هذه اللغة الشريفة وفقاً لما يناسب كلَّ أهلِ عَصر ومِصر.

ذلك لأن اللغة العربية من الاتساع والصعوبة بمكان لا يخفى على مَن عرفها! فهي إحدى لغات ثلاث تُعدّ أصعبَ لغاتِ الناس اليوم! بيد أن جمالَ العربية، وقربَها من الفطرة الإنسانية، وسلاستَها ومرونتَها وعمقَهاتجعل منها لغةً محبَّبةً يتطلع إليها مَن سَلِمتْ فطرتُه، وصَفَتْ صِبْغتُه؛ فيُقبل عليها تعلُّماً وتعليماً.

ولا يخفى على العاقل أن هذه الملاحظ السابقة قد وعاها العلماء السابقون الأولون ممن لم تكن لغاتهم الأم هي العربية، كالبيروني والخوارزمي والرازي وسيبويه، مثلاً لا حصراًفعددهم أكبر من أن يحصر! كلهم كتبوا كتبهم وعلومهم باللغة العربية، لم يعدلوا عنها إلى غيرها! معرفةً لقدرها، واختياراً لها، وتقرباً إلى الله بها، وهاهي كتب خطهم مازالت تنطق باللسان العربي المبين، وتتأنق بالحرف العربي العتيد، وتتألق في سماء التاريخ المجيد، بما لايدع وهماً لمستهين، ولا شكاً لمستكين.

﴿إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ﴾ [الأنعام: ١١٦].

فتقرر بحمد الله أن هناك ملحظين ينتظمان اللغة العربية: لغوي وقدسي، والملحظان أعينهما يتجليان في حق المتكلم بها.

والله يهدي إلى صراط مستقيم.

7 تعليقات على “رؤية في اللغة العربية”

جزاك الله خير الجزاء وبارك الله أعمالكم واعماركم يارب العالمين، مثل هذه المقالات
نسميها بمسماها الحقيقي، لا يكتبها إلا مبدع، كونها تحتاج إلى معلومات وبحث وجهد.
أكرمك الله بالصحة والعافية فضيلة الشيخ محسن أخي الحبيب.

ماشاءالله، جزاك الله خيرا، أسهبت في مقالك الشيق وتكبدت مشقة البحث والإعداد، قرأته مرات عديدة فمثل هذه المقالات درر في كل مرة تقرأها تجد درة نفيسة..
بارك الله في علمكم ونفع به .

التعليقات مغلقة.