التصنيفات
أدبيات ردود لغويات مقالات

مجازفات لغوية

تبهر اللغة العربية العقول، وتدهش الألباب بطواعيتها، وسلاستها وتطورها على مر الأعصار! فلا عجب أن يعد اللسانيون ذلك من أهم خصائص العربية، وأبرز سماتها.

ولكن يصر بعضهم على أن يقولبها في قالب قواعدي جامد هي منه براء!

فيغلِّط الناس في بعض مقولاتهم، ويخطئهم في بعض ألفاظهم بلا دليل أو وجه حق! سوى أنها خالفت بعض المعاجم أو القواعد التي وضعت استقراءً ثم استنباطًا من اللغة نفسها لا العكس! فاللغة هي حاكمة لا محكومة! والقواعد آلة للقياس لا مقيسة!

هذا التسرع في التخطئة بل الغلو فيه أحيانًا سببه المباشر غياب العقلية النقدية المفكرة، والذهنية الواسعة المبهرة!

شأنهم كشأن من يريد أن يضع ماء البحر في قارورة ماء! ثم يقول للناس ما سوى مافي هذه القارورة فليس من ماء البحر! وهذا لعمر الحق محال! ولا يفعله إلا الجهال!

أو مَثَله كمَثَل من يقزِّم عملاقاً؛ ليكون على قياسه!

وغاب عن أكثرهم القول العدل (حسبك أن تصحح في العربية لا أن تُخطِّئ)! وما ذاك إلا لاتساعها، واستحالة الإحاطة بها!

وإني ضاربٌ بعون الله مُثُلا تكون فاتحة لغيرها كلما عَنَّ في الخاطر منها شيء!

فمن ذلك تخطئتهم من يدعو لآخر فيقول:( الله يخلِّيك)! جعلوه بمعنى (تركك الله)! حتى قال قائلهم : (إذا خلَّاني فمن يتولاني)؟!

وهذا تجنٍّ على العربية! وضيق فهم لها! ونظر في دلالة الكلمة من جهة وترك جهات أخر!

فمن دلالة الفعل ( خلّى) ترك، وأفرغ!

فأخذوا المعنى الحرفي بلا تبصر! وخطَّؤوا العامة! والعامة في كثير من ألفاظها ليست بالعمية! بل لها توسع وتبسط في الاستعمال والدلالات! فضلاً عن تطور الدلالة الذي تكسوه كثيراً من ألفاظها وتراكيبها وأمثالها! على مر الأعصار والأمصار

فأخذ هؤلاء معنى ( خلَّى) بمعنى ( ترك)! على الإطلاق! دون النظر والتفكير في سياقية التعبير! وهو أمر لا توفيق لباحث في اللغة وعلومها، والتفسير والفقه والحديث ونحوها إلا بالنظر فيه! ثم تحديد دلالة اللفظ وفقاً للسياق الذي قيل فيه، أو إن شئت فقل (القرينة)! ومعلوم عند اللغويين والمناطقة والأصوليين والفقهاء فإن السياق أو القرينة قد تكون لفظية أو معنوية، وهي معلومة بالضرورة لدى المتكلم والمتلقي على حد سواء!

وعليه تحمل التعابير والتراكيب العربية التي قد يظنها الظانون موهمة أو مبهمة! وهي ليست كذلك قطعاً! كقولهم (انتظرتك عند دار الكتب القديمة) فهل (القديمة) وصف للكتب أم الدار؟ الجواب في القرينة المعنوية الذهنية لدى المتواصلين بهذه اللغة العظيمة! فهما يعلمان أن القدم وصف لأي من اللفظين لكون الأمر معروفاً لديهما، معلوماً بالسياق أو السباق أوالقرينة! وهذا غيض من فيض

أعود إلى العامة عند إنشاء هذا التعبير (الله يخلِّيك) بصيغة الدعاء لم تنظر إلى (خلَّى) بمعنى (ترك) وحسب! بل كان نظرها يتجه نحو اقتران الفعل بقرينة يدل عليها الدعاء! وإلا لما كان دعاءً، وَلَمَا تقبله الناس بقبول حسن! حتى استعملوه في غالب بلاد العرب كالشام والعراق ومصر والجزيرة العربية وبعض بلاد المغرب وإفريقية!

قرنوا الفعل بقرينة دلالية يقوم بها الدعاء!

فأرادوا (خلَّاك) بمعنى (أبقاك الله) أو (أطال الله بقاءك) أو إن شئت فقل:( تركك الله بعيداً عن كل داء أو سوء)، وهذا يجعل الدعاء مستقيمًا مؤداه ( أدام الله بقاءك)، أو بمعنى (تركك خاليًا من الهم والغم)!

فمن خلَّاه الله من العلل والأدواء والأسقام والهم والغم فإنه يُطيل بقاءه بلا شك!

وهذا ما أرادته العامة من قولهم ذاك!

ورحم الله الدكتور أحمد مختار عمر حيث تنبه إلى هذا المعنى فأودعه معجمه القيم (معجم اللغة العربية المعاصرة) فليُرجع إليه!

ونحوه قول المصريين في توصية أحدهم بالاهتمام الشديد في أمر ما (خَلِّ بالك)! بمعنى (أفرِغ بالك واتركه خاليًا من كل شيء إلا مما وصيتك به)! بمعنى (توصَّ به)! وهو من المبالغة في الإيصاء بالشيء، وكنايةٌ عن شدة الاهتمام به! وهذا صحيح لاغبار عليه! وهو معنى ملحوظ في الفعل (خلِّ). وهو كذلك ذكره الدكتور عمر أيضاً مما درجت عليه العامة في كلامها! وهو مما وافق في دلالته أصل الكلمة في العربية الفصيحة.

ومن ذلك تخطئتهم من يقول (مبروك) لمن أصابه خير أو مناسبة سراء! قائلين: بأن الصواب (مبارك)!

وغالب المعاجم العربيةوليرجع إليها تقول:

(مبارك) من البركة

و(مبروك) من بروك الشيء أي ثباته وإقامته وأكثر ما يستخدم في بروك البعير، وسميت (بِرْكَة) الماء لثبوت الماء فيها.

ويجوز استعمال اللفظين في مجال الدعاء لمن حصل له أمر جيد.

فإن قال (مبارك) فقد أراد البَرَكة، وهو من الفعل (بارك).

ولئن قال (مبروك) فقد أراد الدعاء بثبوت الأمر الحسن ودوامه، وهو من الفعل (بَرَكَ).

بمعنى (أدام الله عليك النعمة).

ومن ذلكومع فشو وباء (كورونا) تخطئتهم من يقول (كمَّامَة) بتشديد الميم الأولى!

والقول في ذلك: بأن الكِمامَة بكسر الكاف وتخفيف الميم الأولى وجمعها (كمائم وكِمَامات)، تستعمل لما تعارف عليه الناس في عصرنا هذا من تغطية الأنف والفم! وهو خاص بهذه الأداة الطبية المستخدمة للغرض الصحي المعروف، (ينظر معجم اللغة العربية المعاصر).

ثم ما تلفظه العامة فتقول:(كَمَّامَة) بتشديد الميم، وتجمعها على (كَمَّامَات) هو صحيح أيضاً في الدلالة على الأداة المشار إليها؛ فقد أجاز مجمع اللغة العربية في القاهرة استعمال وزن (فعَّالة) على الآلات والأدوات! وهو ما نستعمله على كثير من الأدوات في زماننا فنقول:(غسَّالة/ سمَّاعة/ ثلَّاجة… الخ)، ونجمعها (غسالات/ سماعات/ ثلاجات‏… الخينظر المعجم الوسيط). وعليه فقولنا: (كَمَّامَة) وجمعها (كمَّامَات) بالتشديد صحيح لاغبار عليه، وهو وزن مستعمل سائغ للآلات والأدوات وهذا من سعة العربية ومرونتها وطواعيتها لكل حادث في كل زمان.

والحمد لله رب العالمين.

وهناك ألفاظ وتعابير وتراكيب كثيرة خطَّأها المجازفون المتسرعون! وهي تعابير عربية صحيحة سليمة! سنقذف ببعضها بين الفينة والأخرى بإذن الله ونرد فيها ما تقولوه عليها من أقاويل!

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تعليقين على “مجازفات لغوية”

التعليقات مغلقة.