التصنيفات
ردود لغويات مقالات

العربية بين هوان أهلها، ونكران أعدائها!

وقفت على عبارة لبعضهم صدّر بها منشوراً مصوراً له على إحدى منصات التواصل المهني، وقد صوّره أحدهم وجعله في إطار مزخرف !وكأنه قولٌ محترمٌ مأثور! أو حكمةٌ من عالم مشهور! وإنما هو عمل من يطير فرحاً بما يطرق مكامن عُقَد النقص فيه: فيتلقفها ويفر بها لعله يشبع بذلك ما تراكم من تلكم العقد لديه!

وإليكم العبارة والمنشور:

تقول العبارة(هل نحن منفتحون على الآراء المختلفة؟ إذا لم نكن كذلك، فإن هذه الجمل يمكن أن تغضبنا)!

أما المنشور فيقول:(العربية في أزمة؛ يجفوها أهلها ويهجرها بنوها، ولا يكاد يتقنها سدنتها وأحبارها. العربية على فراش المرض؛ تعاني من تضخم في القواعد والأصول، وفقر في المصطلح، وعجز عن مواكبة الجديد، و مجاراة العصر. الداء واضح للعيان، ولم يعد بالإمكان إخفاؤه. فبئس الدواء إنكار المرض، وبئس الحل إنكار المشكلة، د. عادل مصطفى؟).

فرددت عليه هناك رداً مختصرًا فقلتُ: هذا ليس برأي قويم فنختلف معه! بل شرود عن العقل والواقع! فصاحبه يتحدث عن نفسه! وعن قوم ليسوا على قدر اللغة العربية! فحمّلها عجزه وعجزهم! لايفرق بين اللغة نفسها وجمالها وسموها، وبين بعض من انتسبوا إليها وما فتئوا يطعنون فيها!

والعجب ممن زخرف عبارته ووضعها في موضع ليس موضعها!

العربية عربية اللسان! لا القومية ولا المكان! ورب كلمة قالت لصاحبها دعني!

وأقول هنا:

نعم، هذا لعمر الحق كلام العاجز عن نفسه! ولا أعلم من هو؟ إن صحت النسبة إليه! فكم يحلو لبعض المنتسبين إلى العربية أو بعض الناطقين بها! أن يخفوا عجزهم وهوانهم بتخيلهم صَلْب العربية وجلدَها! وهم في الواقع ما صلبوا ولا جلدوا إلا أنفسهم! وما صلبوا العربية وما جلدوها ولكن خُيل إليهم، وزين لهم الشيطانُ سوءَ عملَهم!

لاجرم أن هذه صورة معاصرة من صور الشعوبية التي أقامها من أبغضوا العرب! فراحوا يتفننون في اختراع مثالب لم تثلب سواهم!

وربما تجد أحدهم يتخطف الكلمة من عاجز من أبناء العربية فيضيف إليها سبعين كذبة ليشفي صدره من أهلها!

وهذه في الحقيقة حالة انفصام نفسي لدى من ابتُلي بهذا المرض! فلم يستطع التفريق بين اللغة وأهلها والناطقين بها! فأصبح كَلّاً على البشرية أينما توجهه لا يأت بخير! فاختلطت لديه المفاهيم! وتداخلت عنده الأمور، وتشابهت عليه الأفكار! فلم يفرق بين الليل والنهار!

فتراه يرمي بكل ما لديه من سخيف القول، وسوء المنقلب، متجانفاً لإثم الفرية، وشهادة الزور.

فيُعمل في العربية طعناً، متخيِّلًا أنه يطعن في أهلها؛ لبغضه لهم، ولشيء في نفسه تجاههم! فيمارس ألواناً من عقوق العربية، ونكران فضلها عليهم، بتقويم مُعْوج ألسنتهم ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُم يَتَّقونَ﴾ [الزمر: ٢٨] وفتح ذائقتهم لمعرفة بلاغة القول، وأساليب البيان ﴿لِسانُ الَّذي يُلحِدونَ إِلَيهِ أَعجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، فمَثَلُهم كَمَثَل مَن قال فيه الأعشى:

كناطحِ صخرةٍ يوماً ليوهِنَها

فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوَعِلُ

ثم تجد بعضاً ممن ينتسبون إلى العربيةوياللأسفمن ابتُلي بالوَهن والهوان، يعجز عن تسمية الأشياء بأسمائها، والأدواء بدوالّها! فلا يجد شيئًا يفرغ فيه ضعفه سوى العربية! فيكيل لها الطعنات! ويرميها بشتى الافتراءات! وهو يعلم أنها براء منه ومما يفترون!

ولو أنّ لغةً غير العربية تعرضت لما تعرضت له من الحرب والإقصاء، والنكران والتهميش، لما بقي منها أطلال! ولكنها لغة مُشرَّفة مُكرَّمة محمية ما كان قرآنٌ يُتلى!

فدع عنك هرطقاتهم وتخيلاتهمإنها لن تضر العربيةَ شيئًا، بل تضر أصحابها وما يصفون!

وفي مقالة سابقة لي بعنوان لعربية بين القومية والعالمية) قلت: إنّ العربية تختلف عن سائر لغات البشر في كل شيء! ولا سيما بعد نزول القرآن الكريم بها! فليرجع إليها مَن أراد أن يتشكل لديه وعي لغوي سليم، ورأي عقلي قويم.

أما أن نلقي بضعفنا على اللغة لعجزنا عن توجيه أصابعنا إلى المتهم الحقيقي! الذي ما فتئ يحارب لغتنا، ويشوّه جمالها، وينتقص كمالها، فهذا أمر ليس بمقبول ولا معقول!

واللغات التي يتغنى بها هؤلاء المفتونون، اقترضت كثيراً من ألفاظ الحضارة، ومصطلحات العلم من العربية!بل إنّ بعض اللغات اشتملت على أكثر من نصفها على ألفاظ العربية! كالفارسية والتركية والأردية والكردية والبشتونية وغيرها، بل كُتبت بالحرف العربي، وقد ألحق مصنف معجم (المورد) ملحقًا كبيراً في إحدى طبعاته مشتملاً على الألفاظ العربية، والمصطلحات العلمية التي أخذتها الإنجليزية من العربية، وقل الشيء نفسه عن الفرنسية والإسبانية وهلم جراًوهذا أمر أُلّفت فيه كتب من القوم أنفسهم من الناطقين بتلك اللغات! ثم يأتي موتور مأزوم ينفث أزماته النفسية في العربية! فيتهمها بما لديه من عقم علمي، وفقر لغوي، وعجز نفسي!

ورحم الله حافظ إبراهيم إذ يصف عاقّي العربية على لسانها:

رموني بعقم في الشباب وليتني

عقِمتُ فلم أجزع لقول عُداتي

وَلَدْتُ ولمّا لم أجد لعرائسي

رجالاً وأكْفاءً وأدتُ بناتي

وسعتُ كتابَ الله لفظاً وغايةً

وما ضقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلَةٍ

وتنسيق أسماء لمخترعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟

أما آن الأوان لهؤلاء المأزومين أن يفهموا إذا أرادوا أن يفهموا أن المشكلة والأزمة فيهم أنفسهم لا في العربية! وأن الهجر الذي زعموه هم صانعوه! وأن عدم إتقانهم لها لا يعني عدم إتقان أصحابها، وأن التضخم الذي تخيلوه في العربية ثراء! وأن المرض الذي توهموه دواء! والعجز الذي ذكروه إقصاء، والفقر الذي ادعوه غنى، وأن الداء فيهم هم لا في العربية حاشى وكلا!

لا ذنب للعربية في تنحيتها عن التعليم والجامعات واستبدال لغات المستعمر بها ﴿أَتَستَبدِلونَ الَّذي هُوَ أَدنى بِالَّذي هُوَ خَيرٌ [البقرة: ٦١]!؟

لا ذنب للعربية بتشويهها في لغة الإعلام

لا ذنب للعربية في تغييب أثرها في حياة الناس

ولا ذنب للعربية بتمييع صورتها وتضييع هيبتها في نفوس المتعلمين

لا ذنب للعربية بحجب الأكفاء عن تقديمها، وتمكين الأدعياء من تلويثها

لا ذنب للعربية بتصدر الجهلة للمشهد اللغوي ومحاربتهم للعلماء الذين يطورون أساليب اللغة وطرائقها

لا ذنب للعربية بشيوع الفساد والإفساد في تعليمها! وتوظيف من كانوا سبباً في النفور منها! بالشفاعات السيئة، و(الواسطات) والمحسوبيات!

الذنب ذنب من أُغرقوا فغَرِقوا في التغريب بدل التعريب!

الذنب ذنب من أشاع التفاهة والسخافة! ورفع التافهين والتافهات، وحط من شأن العلم والعلماء

الذنب في غياب القرار المُلزِم بجعل العربية في مكانها الذي ينبغي أن تكون فيه طبيعيًا!

ولكنيأبى الله إلا أن ينصر لغة الملأ الأعلى على من تعدى!

يقول علم اللغة الحديث: إن أهل اللغة هم من يرفعون من شأن لغتهم أو العكس!

ولكن في أمر العربيةوكما قلت ولله الحمدأن الأمر مختلف تماماً فالعربية محمية بحماية القرآن! ومرعية برعاية الرحمن! وإلا لما بقيت في لسان إنس ولا جان! فحالنا لا يخفى على أي إنسان! وهواننا بادٍ للعيان.

والحمد لله الذي “علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان”.

تعليقين على “العربية بين هوان أهلها، ونكران أعدائها!”

التعليقات مغلقة.