التصنيفات
ردود فوائد مقالات

صوم يوم عرفة

غايتي في مثل هذه التعليقات والتعقيبات بيان ما أدى إليه اجتهادي في المسائل، ولا أروم سوى الوصول إلى الحقيقة العلمية بكل موضوعية، فعندما أقول مثلًا: لم يثبت حديث مشهور على الألسنة في صوم عرفة! أو عشر ذي الحجة! فليس مرادي منع خير أو ثواب عن الناس! كلا، ولكن الغاية ألا نعتمد في عبادتنا إلا على ما صح من السنة بالدليل الراجح، فالأصل أن ثواب الصيام في النفل متحقق على العموم، فكيف بمن يصومه في يوم عظيم كيوم عرفة تعظيمًا لشعائر الله! فأعظم به من عمل جليل، يستحق ناويه الأجر الجزيل، والثواب الجميل! لكن لا يقال لنا: إن هذه سنة وأجر من يفعلها كذا وكذا! فهذا يحتاج إلى دليل صحيح، ونص ثابت صريح! وإلا فلا.

قال الله تعالى: ﴿ذلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِن تَقوَى القُلوبِ﴾ [الحج: ٣٢].

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا . رواه البخاري برقم 2840 باب فضل الصوم في سبيل الله. وهو في صحيح مسلم ( 1153 ) سنن الترمذي ( 1623 ) سنن النسائي ( 2245, 2247, 2248, 2249, 2250, 2251, 2252, 2253 ) سنن ابن ماجه ( 1717 ) سنن الدارمي ( 2444 ) مسند أحمد ( 11210, 11406, 11560, 11790 ) وغيرها.

وعودة إلى موضوع هذه المقالة فأقول مستعينًا بالله:

روى غير واحد من أئمة الحديث حديث فضل صوم يوم عرفة، منهم أحمد ومسلم وأبوداوود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو يعلى والطبراني وعبد بن حميد وغيرهم.

قال مسلم في صحيحه: عن عبدالله بن معبد الزماني عَنْ أَبِي قَتَادَةَ : رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : كَيْفَ تَصُومُ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ، قَالَ : رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ. فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟ قَالَ : لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ . أَوْ قَالَ : لَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُفْطِرْ . قَالَ : كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ، وَيُفْطِرُ يَوْمًا ؟ قَالَ : وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ ؟ . قَالَ : كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا ؟ قَالَ : ذَاكَ صَوْمُ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . قَالَ : كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ ؟ قَالَ : وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ . صحيح مسلم ( 1162 ) سنن أبي داود ( 2425 ) سنن الترمذي ( 749, 752, 767 ) سنن النسائي ( 2383 ) سنن ابن ماجه ( 1713, 1730, 1738 ) مسند أحمد ( 22517, 22530, 22535, 22537, 22582, 22588, 22616, 22621, 22650 ).

واستشهد بهذا الحديث كثير من الدعاة على فضل صوم يوم عرفة.

وعند تحقيق أسانيد الحديث المشار إليه تبين أن مدار أجود أسانيده على طريقين، وقد ذكرهما ابن بطال في شرحه على صحيح الإمام البخاري نقلًا عن ابن المنذر فقال 4/ 133:“قال ابن المنذر : ثبت أن النبيعليه السلامأفطر يوم عرفة، وروي عنه أن صوم عرفة يكفر سنتين ، رواه الثوري عن منصور ، عن مجاهد ، عن حرملة بن إياس الشيباني ، عن أبي قتادة : « أن رسول الله سئل عن صيام يوم عرفة فقال : ( يكفر ) سنتين : سنة ماضية ، وسنة مستأخرة » ، ورواه شعبة عن غيلان بن جرير ، عن عبدالله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة ،.

قلت: أما الطريق الأول ففيه حرملة بن إياس قال عنه البخاري في التاريخ الكبير:“حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة أو عن مولى أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصومقاله جرير عن منصور عن أبي الخليل البصري ، و قال صدقة عن يحيى عن سفيان، وروی عبد الرزاق عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، و قال قبيصة عن سفيان عن منصور عن حرملة عن أبي الخليل عن مولى لأبي قتادة، و هذا و هم، و قال قبيصة عن سفيان عن ليث عن عطاء عن أبي الخليل عن أبي قتادة، وقال محمد بن كثير عن همام حدثنا عطاء : قال أبو الخليل عن حرملة بن اياس عن أبي قتادة، و قال علي و عبد الله بن محمد عن ابن عيينة عن داوود بن شابور عن أبى قزعة عن أبي الخليل عن حرملة عن أبي قتادة ، و زاد عبد الله عن إلى حرملة مولى أبي قتادة، و لم يصح إسناده”.

ووصفه أساتيذنا شعيب الأرناؤوط ود. بشار عواد محررو(تقريب التهذيب) بـ(المجهول) رادين على ابن حجر وصفه بالمقبول فقالا :“حرملة بن إياس، ويقال إياس بن حرملة، ويقال أبو حرملة ، والأول أشهر: مقبول، من الرابعة .ه بل: مجهول، كما سيذكره المؤلف نفسه في الكنى. وقد ذكره البخاري في «الضعفاء»، له حديث واحد عند النسائي ، قال البخاري : اختلفوا في إسناده، ولم يصح إسناده .….

وبناءً على ذلك فالإسناد ضعيف من هذا الطريق.

وأما الطريق الآخر فعلته أن راويه عن أبي قتادة وهو عبدالله بن معبد الزِّمّاني لم يثبت له سماع من أبي قتادة كما قال البخاري نفسه رحمه الله! فقال في التاريخ الكبير:“وروى غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة…….

وبذلك يكون إسناد هذا الطريق أيضًا ضعيفًا! ولذلك لم يخرجه البخاري في صحيحه رضي الله عنه.

وكان الإمام النسائي قد ذكر في السنن الكبرى 2/ 150- 153 طرقًا وروايات عدة لهذا الحديث! ثم خلص إلى أن إسناده عن عبدالله بن معبد عن أبي قتادة هو أجود حديث في هذا الباب عندي” كما قال رحمه الله. وقد علمت علته فيما تقدم عن الإمام البخاري بعدم ثبوت سماع عبدالله من أبي قتادة رضي الله عنه فتأمل!

وقد حكم عليه الدارقطني في العلل بعد أن استقصى طرقه بالاضطراب، فقال 6/ 151:هو مضطرب! لا أحكم فيه بشيء”.

وعجبت من محقق مسند أبي يعلى كيف صحح إسناد رواية للحديث عند أبي يعلى في مسنده! حيث قال أبو يعلى 10/ 17: حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري، حدثنا معتمر قال: قرأت على فضيل، عن أبي حريز قال: سمعت سعيد بن جبير يقول : سمعت ابن عمر يقول: كنا مع رسول الله نعد صوم عرفة صوم سنة”. وقد رواها النسائي في السنن الكبرى وأنكر حديث من رواها وهو أبو حريز! فقال: “أبو حريز ليس بالقوي واسمه عبد الله بن حسين قاضي سجستان وهذا حديث منكر”.(السنن الكبرى 2/ 155 وتصحف فيه (حريز ) إلى (جرير ) فتنبه!).

وأعجب منه صنيع محقق ( مصنف ابن أبي شيبة) عندما رجح رواية فيها مجهول لا يعرف اسمه! فقال عقب حديث رقم 9810:“حدثنا معاوية بن هشام، عن أبي حفص الطائفي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوم عرفة كفارة سنتين»،قال: “وأبو حفص الطائفي: ذكره أبو أحمد الحاكم فيمن لا يوقف له على اسم، لكن قال الطبراني: اسمه عبد السلام بن حفص، وفيه اختلاف كثير، انظر «تهذيب الكمال»فإن كان هو، فالرجل وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس بمعروف، ومن عرف حجة على من لم يعرف”. وقلده محقق مسند أبي يعلى فجود إسناده في تعليقه على الحديث المشار إليه برقم 7548! مقلداً الهيثمي في مجمع الزوائد عندما أورد الحديث في مجمع الزوائد ثم قال معقباً عليه 3/ 189:“رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح”!

قلت : ليس كما قالا! فأبو حفص الطائفي مجهول الحال أورده أبو أحمد الحاكم الكبير (شيخ أبي عبدالله الحاكم صاحب المستدرك ت378) فيمن لم يقف له على اسم!في (الأسامي والكنى 1538 وأما قول الطبراني وغيره بأنه (عبدالسلام بن حفص)! فلا دليل عليه! فذاك يكنى بأبي مصعب وهذا يكنى بأبي حفص! فهما شخصان مختلفان! فيظل مجهولًا لا يعرف اسمه ولا حاله كما قال الحاكم رحمه الله، فلا هو معروف ولا حجة لمن خلط بينهما. فأنى يكون ثقةً فضلاً عن أن يكون من رجال الصحيح كما قال الهيثمي رحمه الله !

والخلاصة فعلى من يصوم يوم عرفة لغير الحاج، أو يدعو الناس إلى ذلك ألا يعتمد على ما ورد في هذا الحديث! بل يجعل ذلك من باب صوم التطوع وتعظيم شعائر الله في هذا اليوم العظيم ليس إلا. والله الموفق.

وفوق كل ذي علم عليم.

3 تعليقات على “صوم يوم عرفة”

التعليقات مغلقة.