صوم يوم الجمعة

كثر الجدل حول صيام يوم الجمعة منفرداً في غير الفريضة ، وقالوا لا بد من صيام يوم قبله أو يوم بعده.

واستدل غير المجيزين بحديث صحيح رواه البخاري وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : “ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ “. رواه البخاري برقم 1985.

و روي نحوه في صحيح مسلم ( 1144 ) وسنن أبي داود ( 2420 ) وسنن الترمذي ( 743 ) وسنن ابن ماجه ( 1723 ) ومسند أحمد ( 8025, 8772, 9097, 9127, 9284, 9467, 9902, 10424, 10805, 10890 ) .

قال ابن حجر في فتح الباري 4/ 234:“وهذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد، ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة، فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلا أو يوم شفاء فلان”.

وحديث جابر الذي أشار إليه ابن حجر هو الحديث الذي صدر به البخاري هذا الباب، فقال:“باب صوم يوم الجمعة، وإذا أصبح صائمًا يوم الجمعة فعليه أن يفطر ، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عبدالحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد، قال: سألت جابراً رضي الله عنه:أنهى النبي ﷺ عن صوم يوم الجمعة ؟ قال: نعم. زاد غير أبي عاصم(يعني أن ينفرد بصومه). صحيح البخاري 1984.

وفي رواية لمسلم :“ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : “ لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ “. صحيح مسلم ( 1144 ).

وقد لخص مجموع الآراء في ذلك بوجه لطيف ابن بطال في شرح البخاري 4/ 131 فقال:“وقال الشافعي : لا يبين [ لي ] أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار ، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال : « ما رأيت النبي –عليه السلام – يفطر يوم الجمعة » رواه شيبان عن عاصم عن زر عن عبد الله . ورواه شعبة عن عاصم فلم يرفعه ، فهي علة فيه . وروى ليث بن [ أبي ] سليم ، عن عمير بن أبي عمير ، عن ابن عمر أنه قال : « ما رأيت رسول الله مفطراً يوم جمعة قط » وليث ضعيف ، وأحاديث النهي أصح ، وأكثر الفقهاء على الأخذ بأحاديث الإباحة ؛ لأن الصـوم عمل بر ، فوجب ألا يمنع عنه إلا بدليل لا معارض له” .

وخلاصة رأيي في هذه المسألة ألخصه بما يأتي:

1- لا يجوز إفراد صيام يوم الجمعة بصوم تقصداً له بلا سبب مضاف إليه؛ لثبوت النهي عن ذلك. فيبقى على أصله في إفادة التحريم مع عدم ورود ما يصرفه إلى الكراهة.

2- إذا أضيف إلى الجمعة وصف آخر كيوم عرفة مثلًا أو قضاء ونحوه، فهذه زيادة في الوصف الوارد في أحاديث النهي! وهذا يخرجه من النهي المشار إليه. فيجوز صيامه منفرداً والله أعلم. والزيادة في الوصف زيادة في الحكم. ورواية الإمام مسلم تؤيد ذلك حيث ورد فيها ( إلا في صوم يصومه أحدكم) فهذا استثناء، وجاء بصيغة النكرة فيشمل أي صوم لا يكون المقصود فيه يوم الجمعة بعينه! وهذا ينطبق على من يصوم عرفة فهو يريد صوم عرفة لا لأجل الجمعة وإنما يريد صوم عرفة وحسب! بغض النظر أوافق الجمعة أم غيره من الأيام.

3- وما ورد عن الإمام مالك رحمه الله في تجويزه صوم الجمعة حيث قال :“ولم أسمع أن أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة. وصيامه حسن لمن قوي عليه. وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه. وأراه كان يتحراه .…“. فيُحمل على من وافق صومه صياماً له، أو يكون مجموعاً إلى ما قبله أو إلى مابعده، فلم يقل (منفردًا).

4- تعليل النهي عن إفراد الجمعة بصيام لم يرد في حديث صحيح! وورد في حديثٍ بعضٌ من ذلك لأنه يوم ذكر وعيد، وهي زيادات حكم عليها الشيخ الألباني رحمه الله بالنكران. فيبقى الحكم قائماً بلا تعليل لوجه النهي. قال الألباني:“وإنما حكمت على الحديث بالنكارة ؛ لأن ما فيه من النهي عن إفراد يوم الجمعة بالـصـوم قـد صح من طرق عن أبي هريرة ، كنت أشرت إليـهـا في تخريج حديثه هذا ـ الصحيح – في « إرواء الغليل » ( رقم 959 ) ؛ وليس في شيء منها ما رواه أبو بشر هذا من العيد والذكر ، أضف إلى ذلك جهالته . والله أعلم .(السلسلة الضعيفة 11/ 563، وتنظر الأحاديث ذوات الأرقام 5344/ 6826 من السلسلة نفسها).

5- أما صرف النهي عن التحريم إلى الكراهة في صوم الجمعة منفردًا فلا قرينة تدل عليه! فيبقى النهي على أصله في إفادة التحريم، وتقدمت الإشارة إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه في صوم النبي ﷺ يوم الجمعة فيما نقلته عن ابن بطال رحمه الله وهو حديث ضعيف لا يُحتج به.

وسبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.