التصنيفات
خواطر مقالات

بين الحتمية واللاحتمية

المنعم النظر في أحوال البلاد والعباد في هذا الزمن يخرج بنتيجة تأتي وفقاً لمقدمات معينة!

من هذه المقدمات:

أن من صفات الله تعالى الحليم، والصبور، والصبار

وأن من سنن الله تعالى أنه يمهل ويستدرج أهل الكفر والطغيان. ﴿فَمَهِّلِ الكافِرينَ أَمهِلهُم رُوَيدًا﴾ [الطارق: ١٧] ﴿وَالَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا سَنَستَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعلَمونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢] ﴿وَأُملي لَهُم إِنَّ كَيدي مَتينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣].

ومنها أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وإلا لما سقى منها كافراً شربة ماء! كما ثبت في الحديث:“لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ” له شاهد صحيح كما قال الألباني في الصحيحة 943.

وأن يوماً عنده كألف سنة مما يعده البشر! ﴿وَيَستَعجِلونَكَ بِالعَذابِ وَلَن يُخلِفَ اللَّهُ وَعدَهُ وَإِنَّ يَومًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ﴾ [الحج: ٤٧].

وأن الله تعالى يملي للكافر حتى إذا أخذه لم يفلته! وقد يكون عقابه في الآخرة! ولا يعجل له في الدنيا.

وأن هبوط آدم عليه السلام وبنيه إلى الأرض نتيجة معصية آدم لربه ! والهبوط من أعلى إلى أسفل يكون عقاباً!

وأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر كما ثبت في الحديث. “الدُّنيا سِجنُ المُؤمِنِ، وجنَّةُ الكافِرِ”.صحيح مسلم 2956. ولذلك فقد قال سبحانه: ﴿وَلَولا أَن يَكونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلنا لِمَن يَكفُرُ بِالرَّحمنِ لِبُيوتِهِم سُقُفًا مِن فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيها يَظهَرونَ ۝ وَلِبُيوتِهِم أَبوابًا وَسُرُرًا عَلَيها يَتَّكِئونَ ۝ وَزُخرُفًا وَإِن كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلمُتَّقينَ﴾ [الزخرف: ٣٣٣٥].

وأن الدنيا كانت نتيجة حتمية لمشكلة ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطانُ عَنها فَأَخرَجَهُما مِمّا كانا فيهِ وَقُلنَا اهبِطوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حينٍ﴾ [البقرة: ٣٦].

وأن الفساد والإفساد وسفك الدماء مركب في الحياة على الأرض ﴿قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ﴾ [البقرة: ٣٠].

فرار هذا الإنسان من أقرب الناس إليه يوم الحساب يشير إلى طبيعته في النزعة إلى النجاة بنفسه في المواقف المهولة! وتحميل غيره وزر ضلاله!﴿يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أَخيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبيهِ ۝ وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ ۝ لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنيهِ﴾ [عبس: ٣٤٣٧].﴿قالَ قَرينُهُ رَبَّنا ما أَطغَيتُهُ وَلكِن كانَ في ضَلالٍ بَعيدٍ﴾ [ق: ٢٧]. ﴿قالَ لا تَختَصِموا لَدَيَّ وَقَد قَدَّمتُ إِلَيكُم بِالوَعيدِ﴾ [ق: ٢٨].

كل هذه المقدمات الحتمية مؤداها إلى نتيجة واحدة حتمية أيضًا واقعية ملموسة مشاهدة في واقعنا! وهي:

أيها المؤمن اثبت على إيمانك، وادع إليه بما تستطيع ولا تنتظر النتائج والثمرات! فهو أمر عابر للزمن والتاريخ! فقد تدرك حدوثه وقد لا تدرك! وهذه لا حتمية خرجت من رحم الحتمية! فقد تموتوهو الغالبولن ترى ثمرة دعوة الحق! بل ترى عكس ذلك تماماً من تمدد الكفر والعهر وأدواتهما! وترى العيش الرغيد لمن لا يعرف الحلال من الحرام! بل جل ثروته من الحرام!

وسترى الباطل ودعاته أشخاصًا ودولاً ومنظمات لها الصولة والجولة! تنتهك كل المحرمات! ولا تعرف حقاً للمسلمين أو المستضعفين أياً كانوا!

سترى الطغيان في كل صوره ومشاهده! واقعاً

سترى لصوص الأوطان! يعيثون فيها فسادًا وإفساداً

وسترى من يصفق لهم جهلًا أو تملقاً أو نفاقًا أو ولاءً

سترى تقديم التافهين والتافهاتواحترامهم وجعلهم قدوات للمجتمعات!

وسترى حجب العلماء والمفكرين ومن ينبغي أن تكون لهم المكرمات!

سترى المناصب والمراتب والوظائف المهمة توزع كغنائم على أفراد العصابات

سترى ونرى انقلاب الموازين في كل تفاصيل حياتنا

وقد جاء في الحديث الحسن:“إنَّها ستَأتي على النَّاسِ سِنونَ خَدَّاعةٌ، يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصَّادِقُ، ويُؤتمَنُ فيها الخائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأَمينُ، ويَنطِقُ فيها الرُّوَيبِضَةُ. قيل: وما الرُّوَيبِضَةُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: السَّفيهُ يتَكلَّمُ في أَمْرِ العامَّةِ”، مسند أحمد برقم 7912.(طبعة شيخنا شعيب الأرناؤوط). وفي رواية (التافه) وفي أخرى (الفويسق)، وكلها من واد واحد!

فإن أعطاك الله شيئًا من هذه الدنيا فاحمد الله!

وإن منعك وحرمك فقد أخر عطيتك للآخرة ﴿قُل مَتاعُ الدُّنيا قَليلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظلَمونَ فَتيلًا﴾ [النساء: ٧٧].

فاحمد الله على كل حال

فمعرفة المعطيات ونتيجتها السابقة تحتم عليك ألا تقارن نفسك بالكافرين! كي لا تقع في مغالطات لا نهاية لها.

ولذلك كان جواب النبي لعمر بن الخطاب عندما سأله:“ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ ؛ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ : أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي الحديث رواه البخاري 2468.

أليس كل ما نراه من كفر وطغيان وهتك للحرمات واغتصاب للعفيفات وقع بقضاء الله وقدره؟!

إذنلا تحمل نفسك أكثر مما تحتمل! واترك الأمر لمدبره ومقدره سبحانه! فهو من قدر وقضى، وأعطى ومنع، ولا يقع فيما خلق وفيما ملك إلا ما قدره سبحانه!

فعلامَ تلوم نفسك ؟!

وإلامَ تجلد ذاتك؟!

دع الكون لخالقه ومدبره

عش حياتك بما يرضي الله

وقل آمنت بالله ثم استقم ولا عليك وإن كفر سائر البشرية! فليس من شأنك هدايتهم! فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء! ﴿لَيسَ عَلَيكَ هُداهُم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهدي مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢].

ومن حكمته جعل الضالين في زماننا هذا هم من يتحكمون بزمام الأمور!

فمالك الملك ملّكهم! ونزعه منا نحن المسلمين لحكمة بالغة قد لا نتبينها ولا نتلمسها!

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلكِ تُؤتِي المُلكَ مَن تَشاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦].

وهذا الذي قلناه قد قاله موسى كما حكاه القرآن: ﴿وَقالَ موسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيتَ فِرعَونَ وَمَلَأَهُ زينَةً وَأَموالًا فِي الحَياةِ الدُّنيا رَبَّنا لِيُضِلّوا عَن سَبيلِكَ رَبَّنَا اطمِس عَلى أَموالِهِم وَاشدُد عَلى قُلوبِهِم فَلا يُؤمِنوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَليمَ﴾ [يونس: ٨٨]. فاستجاب الله له ولأخيه هارون ﴿قالَ قَد أُجيبَت دَعوَتُكُما فَاستَقيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبيلَ الَّذينَ لا يَعلَمونَ﴾ [يونس: ٨٩]. فالانتصار السريع هنا لفريق المؤمنين جاء بصورة خاصة لكونه مبنياً على دعوة من نبي مرسل! ومع ذلك لعلك لاحظت الدعوة للاستقامة قائمة!

وليس شرطًا أن ما وقع لموسى أن يقع لأهل الحق على مر الأعصار والأمصار! في تحقق الانتصار في وقت قياسي قريب! فتلك حالة خاصة. ومثلها قد يتكرر مع الأنبياء عليهم السلام، وليس مع سائر البشر.

والذي يظهر أن هذه الدنيا وما عليها قد بلغت من التفاهة مبلغًا جعلها تهون على الله ولا يبالي بمن أخذها وملَكها مؤمناً كان أو كافراً

فالعبرة عند الله سبحانه هي الآخرة ﴿وَالآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبقى﴾ [الأعلى: ١٧] وفيها تنقلب الأمور وتختلف الموازين.

فاربع على نفسك أيها المؤمن!

ولا تنتظر نتيجة! مهما استطال الطغيان! وامتد الزمان، وتمدد الفاسدون! واستبد المفسدون! فالأمر قد يطول إلى قيام الساعة!

قم بما عليك مما تستطيع، ولا تعرض نفسك للمهالك أو الإذلال! فالشعوب غالبًا إذا سقطتَ ستصفق وتهتف لمن أسقطك! فهي لا تحترم إلا القوي! وإن كان كافراً!

وقد قال الله تعالى : ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلّا وُسعَها لَها ما كَسَبَت وَعَلَيها مَا اكتَسَبَت رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطَأنا رَبَّنا وَلا تَحمِل عَلَينا إِصرًا كَما حَمَلتَهُ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعفُ عَنّا وَاغفِر لَنا وَارحَمنا أَنتَ مَولانا فَانصُرنا عَلَى القَومِ الكافِرينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦] ، وثبت في الحديث عن رسول الله :“لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه . قالوا : وكيف يذل نفسه؟ قال :يتعرض من البلاء ما لا يطيق”! رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد7/ 274، والألباني في الصحيحة برقم 613.

لا تنتظر نتيجة! اتركها لله الذي لا يدع مثقال ذرة! من خير أو شر! مهما طال الزمان

فالأمر كما قال سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [المائدة: ١٠٥].

فالسعيد من خرج من هذه الدنيا له لا عليه

واستطاع اجتياز كل مصائدها وشراكها دون أن يصيبه منها أذى!

فالامتحان صعب! والخطب جلل، والفتنة حامية، ولا يصمد فيها إلا كل موفق غير مرتاب.

تعليقين على “بين الحتمية واللاحتمية”

التعليقات مغلقة.