التصنيفات
مقالات

تصحيح المفاهيم(5)
(الدعاء)!

قال لي صديقي ذات يومٍ متحسراً: ما أكثر دعاء الداعين!

مذ كنت صغيراً وأنا أسمع الخطيب على المنبر كل جمعة يكثر الدعاء، وفي قنوت الوتر في رمضان، وفي مناسبة وغير مناسبة أسمع دعاء الداعين، وما يحدث في الواقع عكس اتجاه الدعاء تمامًا!

فما الذي يحدث؟

وأين الخلل؟

وأين المهجع والمفر؟

قلت له: صحيح، ولكن لابد من تجلية الأمر؛ كي لا نقع في مغالطات لا تحمد عقباها.

وأنت سألتني عن الخلل وأنا أبين لك وجوهاً منه لعلي أضع يدي على الجرح.

وقد وقع من وجوه:

منها ما يتعلق في الدعاء ، والداعي، أو في زمان الدعاء ومكانه.

أما ما يتعلق في زمان الدعاء ومكانهفكأن يدعو الداعي في مكان وزمان لم يرد عن رسول الله الدعاء فيه، وذلك يا صديقي كيوم الجمعة على المنبر! وإني لأعجب لخطباء هذا الزمان شغفهم بتخصيص غالب الخطبة الثانية بالدعاء في هذا الموضع! وحفاظهم على بدعتهم التي ما أنزل بها من سلطان، دع عنك ما يدعون به مما لا يجوز أو بما يستجلب سخط الرب سبحانه!( ينظر: السنن والمبتدعات 90، والأجوبة النافعة72).

وقس على ذلك ما شئت مما ذكرت، كما في مد قنوتهم الذي خالفوا فيه من تستوجب مخالفته الفتنة والعذاب الأليم!

ويحهم! ألا يعلمون أن ما عند الله لا ينال إلا بما شرع الله؟!

ألم يتلوا قوله تعالى ﴿فَليَحذَرِ الَّذينَ يُخالِفونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصيبَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ [النور: ٦٣]. وقوله جل من قائل: ﴿وَمَن يُشاقِقِ الرَّسولَ مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَت مَصيرًا﴾ [النساء: ١١٥].

وأما ما يقع في أمر الداعي، فيكفينا ما رواه حذيفة بن اليمان عن النبي قال: والَّذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكم عذابًا مِن عندِه ثمَّ لتدْعُنَّهُ فلا يستجابُ لكم”. (رواه الترمذي وحسنه، ورواه أحمد، وحسنه المنذري وابن حجر والألباني وشعيب الأرناؤوط وغيرهم. ينظر: ابن حجر العسقلاني هداية الرواة: 4/484 حديث رقم 5068).

ودع عنك أسلوب بعض الداعين من الصراخ في الدعاء أو تنغيمه وترنيمه وتسجيعه حتى ترتيله!ونحوه مما يطول وصفه وليس هذا محله!

فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ . (رواه البخاري في صحيحه برقم 2992). وجاء في شرحه فتح الباري”قوله: ( اربعوا ) بفتح الموحدة أي ارفقوا، قال الطبري: فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين”.

وأما ما يتعلق بالدعاءفمن وجهين:

أحدهماالتشدق بأدعية فيها تجاوز واعتداء على حد ما ثبت في الحديث : أنَّ عبدَ اللهِ بنَ المُغفَّلِ سمِع ابنًا له يقولُ في دعائِه : اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُك القصرَ الأبيضَ عن يمينِ الجنَّةِ إذا دخَلْتُها قال : أيْ بُنَيَّ سَلِ اللهَ الجنَّةَ وتعوَّذْ به مِن النَّارِ فإنِّي سمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : ( سيكونُ في هذه الأمَّةِ قومٌ يعتَدونَ في الدُّعاءِ والطُّهورِ )”. (رواه ابن حبان في صحيحه برقم: 6763 وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال محققه شيخنا شعيب الأرناؤوط رحمه الله).

بل إن بعض الأدعية فيها قلة أدب مع الله بَلْه ما فيها من مخالفة الشرع! وقد تسافه بعضهم بأن خصص دعاءه لمن يتابعه في صفحته في (الفيس بوك)! وكثير من مهووسي الشهرة واللاهثين خلف زيادة الأتباع في بعض وسائل التواصل يخصص دعاءه لمن نشر مقطعه فقط ليتم له ما يريد! ولبئس ما صنعوا.

والله سبحانه في كتابه الكريم قد جعل الدعاء على ألسنة النبيين عاماً للمؤمنين والمؤمنات.فأين هذا من ذاك؟

والوجه الآخر لهذه الحيثية:

خلو الدعاء أصالةً مما يستوجب أصل وجوده ومشروعيته!

فمن نافلة القول بأن الرسول ﷺكان يدعو بعد أن يعمل بما يسره الله له وأتاحه له من أسباب الدعاء!

فكان يدعو عند لقاء العدو في غزواته وجهاده بعد أن يحقق قول الحق : ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرينَ مِن دونِهِم لا تَعلَمونَهُمُ اللَّهُ يَعلَمُهُم وَما تُنفِقوا مِن شَيءٍ في سَبيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لا تُظلَمونَ﴾ [الأنفال: ٦٠].

ففقه الدعاء يقوم على فهم مقاصده، ووسائله، وأنه لا يقوم إلا بعد الأخذ بأسبابه، والعمل على ما يفضي إلى إيجابه، وهذا الفقه يغفل عنه كثير من الناس في زماننا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن طريف ما يروى عن بعض السلف أنْ “قال رجل لآخر، وكان معه إبل جُرُب: هلّا داويتَها؟ فقال: إنّ لنا عجوزًا صالحة نتكل على دعائها ونستغني به عن الدواء، فقال اجعل مع دعائها شيئًا من القطران” (ينظر: محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني1/ 512).

ومما يحكى عن نابليون أنه كان يقول لجنوده في حملاته التي كانت على باطل وبالباطل: (الرب يستجيب لمن كانت مدافعهم أعلى صوتاً وأقوى وأشد)! يقول ذلك وهو على باطله!

فقل لي يا صديقي: كيف يستجيب الله لأمة قد تفننت في مخالفة كتاب ربها، واستجمعت ما شاقت به رسولها ﷺ، وصفقت لكل من نبذ كتاب الله وراء ظهورهمكأنهم لا يعلمون!

واحدة مما ذكرت كفيلة بأن يرد الدعاء!

فكيف بمن جمع موجبات نقضه، وموبقات رده، واستكمل أنواع خلله، واستوعب وسائل فشله؟!

فكيف يستجيب الله دعاءهم بعد كل ذلك يا صديقي؟!