التصنيفات
ردود مقالات

تصحيح المفاهيم(4)
اختيار الله لك خير من اختيارك لنفسك!

انتشر كثيرًا في مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع صوتية يتكلم فيها أصحابها على مسائل في القضاء والقدر ، تتمحور حول فكرة أن ما يكون في حياتك هو اختيار الله لك! وهو خير من اختيارك لنفسك!

فكيف حكم هؤلاء بذلك؟! وعلامَ اعتمدوا؟ (أطَّلَعَ الغيبَ أم اتخذ عند الرحمن عهدًا)؟!!

وهذا مفهوم خطير! ذو شر مستطير! إنْ أُخِذ على إطلاقه أو على عمومه!! لأنه قد يُفضي بصاحبه إلى عقيدة ( الجَبْر) التي تُنسب إليها ( الجبرية)! وهي عقيدة باطلة، وأصحابها فرقة ضالة عند أهل السنة.

ومفهوم عقيدتهم يقوم على سلب الإنسان اختياره! وأنه لايملك خياراً في حياته! بل هو مجبور على ما يحصل له! فهو مسير لا مخير!

وهذا مفهوم غير صحيح البتة!

يخالف عقيدة الإسلام! منطوقًا ومفهومًا!

فمن يقول : اختيار الله للمرء خير له من اختياره لنفسه! لا بد من وضعه في قيد (الدعاء)! ومنه ( الاستخارة)! فمن استخار على الوجه الصحيح فينطبق عليه.

ومن دعا الله تعالى في أمر ما أن يختار له ما كان خيراً له ونحوه! فذلك كذلك. ويكون هذا من باب إجابة الدعاء.

ولذلك ورد في الحديث قوله :( لايرد القضاء إلا الدعاء)! (رواه الترمذي2139، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 3068، وغيرهما، وهو حديث حسن).

وأما إطلاق الكلام في هذه المسألة على عواهنه بلا قيد فيندرج في مفهوم الجبرية! والمعتزلة! كما سيأتي بيانه.

فالكتاب والسنة أثبتا الاختيار للإنسان! وإلا لما كان هناك وجه للثواب والعقاب!

يقول سبحانه:“﴿وَهَدَيناهُ النَّجدَينِ﴾ [البلد: ١٠].

قال ابن كثير في تفسيره:“قال سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن عبد الله، هو ابن مسعود: { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ} قال: الخير والشر، وكذا روي عن علي وابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي وائل وأبي صالح ومحمد بن كعب والضحاك وعطاء الخراساني وآخرينونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }.

وقال ابن عطية في المحرر الوجيز:“واختلف الناس في {النجدين} فقال ابن مسعود وابن عباس والناس: طريقا الخير والشر، أي عرضنا عليه طريقهما، وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد”.

وقال الثعالبي في الجواهر الحسان في تفسير القرآن:“أي: عَرَضْنَا عليه طريقَهما، وليستِ الهداية هنا بمعنى الإرْشَادِ”. والعرض يقتضي الاختيار بلا شك!

وأما نفي ( الخِيَرَة) أي : الاختيار في قوله تعالى:﴿وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمرًا أَن يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالًا مُبينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦]، فتفسيره “ولا يصحّ لمؤمن ولا مؤمنة إذا حكم الله ورسوله فيهم بأمر، أن يكون لهم الاختيار في قَبوله أو رفضه، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ عن الصراط المستقيم ضلالًا واضحًا”.كما ورد في (المختصر في التفسير). و(تفسير السعدي) وغيره. فهو محمول على الحكم والقضاء.

وأما نفي الاختيار في قوله تعالى ﴿وَرَبُّكَ يَخلُقُ ما يَشاءُ وَيَختارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمّا يُشرِكونَ﴾ [القصص: ٦٨]، فالمراد به كما يدل عليه السياق اختيار النبوة، يقول البغوي في معالم التنزيل: قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ}، نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا: “لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجل من القريتين عظيم” يعني: الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم”.

وجاء في تفسير الفيروزأبادي:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} كما يشاء {وَيَخْتَارُ} من خلقه بالنبوة من يشاء يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مَا كَانَ لَهُمُ} لأهل مكة {ٱلْخِيَرَةُ} الاختيار {سُبْحَانَ ٱللَّهِ} نزه نفسه {وَتَعَالَىٰ} تبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به من الأوثان”.

وقد قرر ابن كثير رحمه الله أن تأويل (ما) في الآية الكريمة على أنها موصولة بمعنى (الذي) هو مسلك (المعتزلة) فقال في تفسيرها: يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} أي: ما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه، وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ} نفي على أصح القولين؛ كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقد اختار ابن جرير: أن {ما} ههنا بمعنى الذي، تقديره: ويختار الذي لهم فيه خيرة، وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح، والصحيح أنها نافية؛ كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره. أيضاً فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا قال: {سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: من الأصنام والأنداد التي لا تخلق، ولا تختار شيئاً”.

وهذا الذي قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره عليه جمهرة تفاسير أهل السنة! وهو المنسجم مع سياق الآيات، فهي تتحدث عن النبوة، وإرسال الرسل واختيارهم!

فنفي اختيار الخلق في موضع سورة الأحزاب مراده الحكم والقضاء، ونفي اختيار الخلق في موضع سورة القصص مراده الخَلق والاصطفاء! وليس لنفي اختيارهم لأنفسهم مطلقًا كما قد يتوهم متوهم! فيُطلق فهمه للتنزيل دون الرجوع إلى التفاسير المعتمدة عند أهل العلم.

ومن أصول التفسير أن لا يُفسَّر النص مجتزأً من سياقه! بل لابد أن يُفهم في ضمن السياق الذي ورد فيه؛ فالقرآن الكريم وحدة واحدة متكاملة مترابطة! يُفسِّر بعضُه بعضًا.

ومن هنا كان الوقف التام عند أهل السنة على قوله سبحانه:(ويختار)!خلافًا للمعتزلة.

قال النحاس في (القطع والائتناف)ص548: (ويختار) فإن أكثر أصحاب التمام وأهل التفسير والقراء على أنه تمام”، ويقول السجاوندي في (الوقف والابتداءبتحقيقي ص325: (ويختارط (أي وقف مطلق))، ومن وصل على معنى: ويختار ما كان لهم فيه الخيرة، فقد أبعد! بل (ما) لنفي اختيار الخلق تقريراً لاختيار الحق تعالى”، يريد معنى الاختيار في الآية كما تقدم في الخَلق والاصطفاء.

فإذا تبين ما تقدم فيصح أن نقول: اختيار الله لك خير من اختيارك إذا كنت قد استخرتَه أو دعوتَه ، فيكون من باب الدعاء وإجابته!

أما إنْ لم تفعل فهو اختيارك بنفسك لنفسك! ومن ثَمّ كان من دعائه : لا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفة عين”!

فمن وُفِّق للدعاء فقد وفق للإجابة.

والله يهدي من يشاء.

4 تعليقات على “تصحيح المفاهيم(4)
اختيار الله لك خير من اختيارك لنفسك!”

بارك الله فيك اخي وشيخي الفاضل العزيز ، مقال مهم جدًا في زمن اختلطت فيه مفاهيم اغلب الناس.
جزيت خيرًا وبورك في علمك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شيخي وأستاذي الدكتور محسن الدرويش .
ما شاء الله أداء سهل ممتنع ومفيد .
جزاك الله خيرا ونفع بك الإسلام والمسلمين.

التعليقات مغلقة.