التصنيفات
مقالات

جدلية الدين والأخلاق

يخطئ كثير من الناس عندما يربط بين الدين والأخلاق في واقع الناس اليوم!

مع أنّ الدِّينَ غالبُه أخلاقٌ! وباب العبادات فيه لا يشكِّل أكثر من الثلث تقريبًا!

قال شريح بن مسلمة سمعت عبدالله بن المبارك يقول: “كاد الأدبُ أن يكون ثلثي الدين!“(صفة الصفوة لابن الجوزي ص 774).

ومما يدل على عدم تلازم الخُلُق والتدين وجوداً وعدماً! حديث رسول الله :“إنما بُعثتُ لأُتَمِّم صالح (وفي رواية(مكارم)) الأخلاق” (رواه أحمد 8952، والحاكم 2/ 613 وغيرهم، وقال ابن عبدالبر في الاستذكار 8/ 280:“وهذا حديث مسند صحيح عن النبي ﷺ”)، فقال ( أُتمِّم) لا (أُوجِد) أو ( أضع)! وهذا يعني كما ذكر شراح الحديث بأن هناك أخلاقًا كانت سائدة قبل بعثته وأقرها الإسلام، بل ثبَّتها وأكد أهمية تنميتها، كالكرم، وإغاثة الملهوف، وإجارة الخائف، والصدق، والمروءة ونحو ذلك مما يطول ذكره! ونأسف على فقدان غالبه في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فحقيقة الأمر أن لا تلازم بين وجود الدين والأخلاق إذا نظرنا في واقع الناس! مع أن الدين يحث على الأخلاق الفاضلة ويؤكدها وينميها ويدعو إلى الثبات عليها، والأصل في التدين أن يؤكد ذلك، ويتمثل به! ولذلك فيُفترض في المتدين أن يكون كذلك. يقول الله تعالى: ﴿اتلُ ما أوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكبَرُ وَاللَّهُ يَعلَمُ ما تَصنَعونَ﴾ [العنكبوت: ٤٥].

ولكنك تجد إنسانًا غير مسلم فتراه على خُلُق! فلا يكذب ويفي بالوعد والعهد، ولا يسرق، وحَسَن التعامل مع الناس الخوهذا من دلائل ما ذكرتُ ويوضحه بل يؤكده فهو واقع مشاهَد!

وفي المقابل تجد مسلماً يقوم بالعبادات كلها فريضةً ونافلةً، من صلاة وصيام وحج وعمرةالخ ولا تكاد تأْمَن بوائقه!! لكثرة سوئه، وفحش خُلقه! فتجده كذّابًا غدّاراً نمّاماً بذيئاً لا يفي بوعد ولا عهد! سيء المعاملة لجيرانه وللناس عامةً! فضلاً عن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه! ولا أقول يؤثره على نفسه! فتلك منزلة دونها خرط القتاد!

ولا أدَلَّ على هذا الملحظ الذي ذكرتُه في أن التلازم غير لازم وجوداً وعدماً بين التدين والأخلاق، وأن التكامل حتميٌ لا مناص منه فيهما سلوكاً وعملًا قولًا واحداً! ولا تعويل على أحدهما دون الآخر! من الحديث الصحيح : “قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تَصومُ النَّهارَ وتَقومُ اللَّيلَ، وتُؤذي جيرانَها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تُصلِّي المَكتوباتِ، وتَصَّدَّقُ بِالأَثوارِ (القطع)مِنَ الأَقِطِ (الجميد)، وَلا تُؤذي جيرانَها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ... (أخرجه أحمد (9675 والبزار (9713 وابن حبان (5764 وهو في صحيح الترغيب 2560).

فدين بلا خُلق لا ينجي صاحبه من عذاب الله!

وخُلق بلا دين كذلك.

وقد أكّدَ هذا التكاملَ بين الدين والخلق في السلوك حديثُ نبينا محمد حيث قال: أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقاً” (رواه أبو داوود (4682 وأحمد (10817 وغيرهما، وهو صحيح بشواهده).

بل جعل الرسول الخيرية للمؤمن الذي تكامل فيه جانبا الإيمان والأخلاق عملًا وسلوكاً، فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ خيارَكم أحاسنُكم أخلاقاً” (رواه البخاري 6035).

ومن لطف الله تعالى بعباده، وتحفيزاً لهم، فقد جعل لحُسن الخُلق في مفهوم الدين الحنيف تعويضًا عن نوافلِ العبادات بل زيادتَها! ذلك لمن كان ذا دين ولم يكُ مكثراً منها!

والعكس غير صحيح قطعاً

فسيء الخلق مهما كان لديه من عبادات ونافلة فلا تغني عنه شيئاً! ولا تقوم بتعويضه عن أن يهوي في دركات الهاوية!

وقد وضَّح هذا المعنى الحديثُ الصحيحُ من قوله : إن الرجل ليدرك بحُسن خُلُقه درجات قائم الليل ، صائم النهار”! ، وفي رواية “درجات الصائم القائم ، الظمآن في الهواجر”، (رواه أبو داوود 4798، والبغوي 3500، والحاكم 1/ 60، وابن حبان 480، والخرائطي 52، وغيرهم، وهو صحيح بمجموع شواهده) والمراد منه النافلة! دل على ذلك قوله :(القائم) فالقيام نافلةً كما هو معلوم. وضده مر بنا من حديث المرأة كثيرة النافلة التي استحقت أن تكون من أهل النار؛ لسوء خُلقها مع جيرانها!

خلاصة القول

أن التلازم بين الدين والأخلاق غير لازم وجوداً وعدماً

وأن التكامل بينهما لازم حتميٌ، سلوكًا وعملًا لمن أراد الفلاح والنجاح.

فغائية الدين تقوم على أن يعيش الناس هذا التكامل بين الدين والأخلاق؛ فيتمرأى في حياتهم واقعاً؛ وصولًا لمجتمع متماسك متكافل! ليفوزوا بسعادة الدنيا، ونعيم الآخرة.

من هنا كان على كلٍّ منا أن يقف مع نفسه وقفاتِ صِدْقٍ ، فيتبين أين موقعه في خارطة الدين والأخلاق؟! ويتيقن أن لا نجاة له إلا بهما معًا.

فالأخلاق أرزاق

وعلينا أن نسلك مسالكها كي نفوز بها

والله يرزق من يشاء بغير حساب.

5 تعليقات على “جدلية الدين والأخلاق”

بارك الله فيك دكتورنا الفاضل …
سلمت يمناك … كما تعلمنا منك بإسلوبك الجميل وطرحك الواعي فعلا طرح مثل هذه القضايا المعاصر بهذا الرقي والعلم مهم جداً في زمن اختلطت فيه المفاهيم وتزعزعت القيم وشكك في الدين والتدين … نسأل المولى عزوجل السلامة والثبات ..

التعليقات مغلقة.