التصنيفات
مقالات

تصحيح المفاهيم7 (العين)!

لا يكاد يقع ما يسوء أحدهم حتى يبادر لتعليقها على علّاقة ( العين )! والأدهى أنه يعزو ما أصابه من قدر الله إلى العين التي عانته كما يظن! ولبئس ما يعتقد!

ولعمر الحق هذا خلاف مفهوم ما ورد في النصوص الصحيحة الصريحة في العين ذاتها!

مشكلة القوم أنهم أنزلوا النصوص في غير منزلها الذي وردت فيه!

ويبدو لي أن مرد ذلك يرجع كما في كثير من المسائل إلى فرط جهلهم:

1- باللغة العربية.

2- بأصول الدين ( العقيدة ).

3- بالفقه الإسلامي.

وإذا جمعنا النصوص الواردة في هذه العين فلابد من فهمها في أتم سياق لحديث ورد فيها كي تنجلي الغشاوة عن الفهم الصحيح لدى من ضل به الفهم، وزلت به القدم، فبنى بيوتاً كبيت العنكبوت “وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون”!

وسأذكر هنا رواية الإمام مسلم في صحيحه فهي أكمل الروايات وأتمها في هذا الباب.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَِقَ الْقَدَرَِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا”.رواه مسلم برقم 2188.

قال الإمام النووي في شرحه:“قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين ) ‏‏فيه إثبات القدر ، وهو حق بالنصوص وإجماع أهل السنة، وسبقت المسألة في أول كتاب الإيمان، ومعناه : أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى ، ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمُه، فلا يقع ضررُ العين ولا غيرُه من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى”.

وشَرْحُ هذا الإمام للحديث يدل على فهمه العميق، وفقهه الدقيق للنص النبوي العربي.

فـ(لو) كما هو معلوم في العربية حرف امتناع لامتناع! أي: حرف شرط يفيد امتناعَ تحققِ جزاءِ الشرطِ وجوابِه لامتناع تحقق الشرط أصلًا.

فعندما نقرأ في الحديث ( ولو كان شيء سابَِقَ القدرَِ سبقته العين) فهذا يفيد بامتناع أن تسبق العينُ قدرَ الله تعالى؛ لامتناع أن يسبق أيُّ أمرٍ قدرَ الله تعالى في الأشياء! هذا مفهوم الحديث كما دل عليه منطوقُه باللسان العربي المبين.

وهذا لا ينافي ما صُدِّر به الحديث بأن (العين حق). فهي تكون في ضمن هذا الإطار، وأنها تدور مع قدر الله حيث دار، ولا تأثير لها بذاتها ولا أثر، بل لا يقع منها إلا ما وافق قدراً قدَّره العليم الخبير وتقدست أسماؤه. وعلى هذا الفهم الصحيح جاء كلام شارح الحديث الإمام النووي رحمه الله تعالى.

وسواء أضُبطت(سَابَقَ) على أنها فعلٌ ماضٍ من المسابقة، و(القدرَ) مفعولُه، أم ضُبطت (سابِق) على أنها اسم فاعل من الفعل (سبق) خبر (كان) منصوب، وهو مضاف، و(القدرِ) مضاف إليه، فالمعنى واحد، والدلالة هي عينها لم تتغير.

ولذلك جاء النهي عن استعمال (لو) في معرض وقوع الأقدار، بالتقول بها علي سبيل الامتعاض منها، أو الظن بأنها تتغير بتغير الأغيار، فقد صح في حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ . رواه مسلم في صحيحه برقم 2664.

والمراد بـ(لو) التي تفتح باب الشيطان هي التي قد يظن ظان بأنه لو فعل غير ما سبّب نتيجة فعله لتغير القدر الحاصل له! وفي هذا بلا ريب فتح لباب الشيطان في التقول على الله بغير علم والتألي عليه بأنه لو غيّر فعله لتغيرت النتيجة! وكل ذلك من وساوس الشيطان وهواجسه، ولا يغير قدراً، ولا يمحو أثراً.

فكان حسب المؤمن والحال هذه أن يقول:(قدّر الله وما شاء فعل) معلنًا الرضى والتسليم لقضاء الله وتقديره؛ فالأمر كله لله سبحانه.

وما حظ الإنسان من هذه الدائرة إلا أن يقوم بما يَقْدر عليه مما أتاحه الله له من الأسباب، وأما كيفية النتائج بعد ذلك فأمرها إلى الله، فقد تقع مكافئة للسبب أو دونه أو فوقه! وكله بأمر الله وقدره سبحانه.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي الوارد في الحديث هو نهي تنزيه لا تحريم، والمقال يحتمل، والرأي يتسع، جاء في شرح النووي على صحيح مسلم:“قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله ، وما شاء فعل ; فإن لو تفتح عمل الشيطان )قال القاضي عياض: قال بعض العلماء : هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فعل ذلك لم تصبه قطعًا، فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى بأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله فليس من هذا،… قال القاضي: فالذي عندي في معنى الحديث: أن النهي على ظاهره وعمومه؛ لكنه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : “فإن (لو) تفتح عمل الشيطان”، أي : يلقي في القلب معارضةَ القدر ويوسوس به الشيطان . هذا كلام القاضي : قلت (النووي): وقد جاء من استعمال (لو )في الماضي قوله صلى الله عليه وسلم : “لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقتُ الهدي “، وغير ذلك، فالظاهر أن النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهي تنزيه لا تحريم، فأما من قاله تأسُّفًا على ما فات من طاعة الله تعالى، أو ما هو متعذِّر عليه من ذلك، ونحو هذا فلا بأس به، وعليه يُحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، والله أعلم”.

وعود على موضوع العين فالسبب الذي يرد القدر الذي قد يرافقها هو العمل بأسباب التحصين من ذكر ودعاء وتلاوة القرآن. فهذا ما يرد مر القضاء والقدر كما ثبت في الحديث عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ . رواه الترمذي برقم 2139 وقال عقبه:وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وهو كما قال.

وأما قوله في آخر حديث العين: وإذا استُغسلتم فاغتسِلوا) فجرى على عادة العرب في مثل ذلك؛ كي لا تقع شحناء وبغضاء وما لا تُحمد عقباه!

ذلككما يبدو ليبأن العين في دلالتها هي تعني طاقة سلبية تتكون من مجموع مشاعر نارية تحيط بالمَعِين؛ فكان صب الماء الذي أطفأ طاقة العائن السلبية على متلقي هذه الطاقة النارية هو أفضل ما تُطفأ به حمأة هذه الطاقة التي أحاطت به!وكأنهم يطلبون انطفاء فورة المعين بذات الماء الذي أطفأ جذوة العائن وأسكن طاقته! وهذا كله لا يقع إلا موافقاً القدر كما هو مؤصل في الحديث الذي صدرت به هذه المقالة.

وكذلك جُعل الماء يطفئ كل طاقة سلبية من حَدَث وغضب ونحوها، فالماء مثلًا في الوضوء أو الغسل هو تكوين طاقة إيجابية تحيط بصاحبها تحجب عنه ما قد يتعرض إليه من طاقات سلبية، أو نزغات شيطانية؛ ولذلك جاء التوجيه النبوي الكريم بالوضوء بعد الحدث الأكبر إذا أراد المسلم النوم ونحوه، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ”. رواه البخاري برقم 288.

فالوضوء بأغراضه المنوعة كان تهيئة مادية بالنظافة الشخصية، وتهيئة معنوية بحجب كافة الطاقات السلبية المنوعة، ثم التوجه لعبادة الله التي هي أصل كل خير.

فالاستغسال إن عُرف العائن على وجه اليقين! كمن رأى الشيء واستحسنه وأعجبه ولم يدع بالبركة لصاحبه، و لم يذكر اسم الله تعالى الذي ينفي كل شر، أو نظر باستجماع تمني زوال النعمة، أو نظر بعين التحسر الشديد على فقدانه ما عند غيره، ونحو ذلك.

وأما إذا لم يُعلم العائن، وهو الأغلب، ووقع قدرٌ ما وافق عيناً أو نفْساً فلا سبيل لذلك إلا الرقية الشرعية بما ثبت في الكتاب والسنة، ورأس ذلك كله المعوذتان.

وخلاصة الأمر أن العين موجودة وهي حق بمعنى أن الناس قد ينْفسُون الناس أي: ينظرون إلى الأعيان والأشياء بعين الإعجاب أو بعين النقمة، وتمني زوال النعمة، وكل ذلك لا يوقع قدراً، ولا يسبق قضاءً، وإذا وقع فلأن الله تعالى أوقعه وقدّره وقضاه، وطريق الخلاص من ذلك كله كما ثبت في أحاديثَ صحاحٍ أُخَرَ بالدعاء بالبركة وذكر الله، والتحصن بالأذكار.

والحاصل أنه لا يجوز لمسلم ولا مسلمة أن ينسبوا قدراً أصابهم أو قضاءً حل بهم إلى عين عائن ، ونظر ناظر وتأثيرهما! وإنما وقع القدر بما وافق النظر، وغالب من يقع له مثل ذلك غير متحصن بالأذكار والدعاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.