التصنيفات
لغويات مقالات

تصحيح المفاهيم6 (القومية العربية)

كنت قد بينت في مقالة سابقة أن العربية هي عربية اللسان، وأنها قبل العرب، وأن اللغة العربية سماوية، أي: أنّ منشأها السماء، ولم توجد أو تولد في الأرض! وهذا يجعل منها لغةً مختلفةً عن غيرها، من حيثيات عدة:

1- من حيث أصل النشأة.

2- ومن حيث الثبات.

3- ومن حيث السمات.

4-ومن حيث القداسة، وبرهنت على ذلك.

ومن هنا وبناء على ذلك أبدأ كلامي على ما صدَّعوا به رؤوسنا في العصر الحديث من شعارات زعمت أنها قائمة على ما سمَّوه:(القومية العربية)! وسأوضح فساد هذا المصطلح في وحي اللغة والفكر السليم.

بدايةً هناك تناقض بين مدلول كلمة (قومية) ومدلول كلمة (عربية)!

فدلالة كلمة (قومية) لا تنسجم مع مدلول كلمة (عربية)؛ ذلك لأن العربية كما وضحت سابقًا هي عربية اللسان، فكل ناطق بها قد أخذ حظاً منها بقدر ما أحسن منها، وليست لغةً قوميةً أرضية كسائر لغات الناس.

ولأن العربية كانت قبل العرب وإليها يُنسبون، وكان القرآن بها في اللوح المحفوظ قبل ما شاء الله أن يكون، وكانت لغة الملأ الأعلى! فهذا يجعل منها لغةً تتجاوز حدود الزمان والمكان والقوميات والجنسيات والعصبيات!

فكل مَن تكلم بهذا اللسان صار عربياً واندرج مع كل الناطقين به في حيز واحد.

وأحق الناس بهذا اللسان هو المسلم؛ لذلك تراني أخصه بالذكر، فالمسلم الكردي الناطق بالعربية هو من العرب الكرد، والمسلم الهندي الناطق به من العرب الهنود، والمسلم الإندونيسي الناطق به من العرب الإندونيسيين، والمسلم الشيشاني الناطق بالعربية من العرب الشيشان وهكذا

وهذا الوصف الزائد يُعد تميزًا له عمن سواه ممن لا يحسن اللسان العربي! وهو لا يلغي أصل انتمائه لعرقه، بل يتكامل معه.

وأما مدلول لفظ (القومية) فقد انتهى عند العرب مع نزول القرآن الكريم بلغتهم! وهو ما يتماهى ويتماشى وينسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية والرسول الكريم .

ومن البديهيات أن الإسلام كان للناس كافة لا يخص قوماً بعينهم، وإنما اختير القوم الناطقون باللسان العربي المنتسبون إليه ليحملوا الرسالة ويجاهدوا في سبيل نشرها في كل أصقاع الأرض! وهذا تشريف ترتب عليه تكليف، ولذلك قال الله سبحانه: ﴿اللَّهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].

وقال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤]، أي: شرف ورفعة، وهذا تشريف، وأردف ذلك بقوله سبحانه: ﴿وَسَوفَ تُسأَلونَ﴾ [الزخرف: ٤٤]. وهو تكليف بحمل الرسالة.

أريد أن أقول: إن مفهوم كلمة (العربية) قد قضى تماماً على مفهوم (القومية)! لأنه صهر الجميع في بوتقة هذا اللسان الذي نزل به القرآن.

ومفهوم كلمة (الإسلام) قضى تماماً على مصطلح (القومية العربية).

وورود كلمة (قوم) في الآية الكريمة إيذان بالاختيار والتشريف بحمل هذا التكليف للتعيين والتعريف لا للتقييد والتحديد.

ولعمر الحق فقد وعى الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذا المفهوم وعياً ليس بعده وعي! فترى العربي، والعربي الحبشي، والعربي الفارسي، والعربي الرومي، والعربي القبطي، جميعًا مجتمعين تحت راية الإسلام، بلسانهم العربي الواحد الذي جمعهم ولم يفرقهم ولم يُلغِ تنوعهم، بل شكّل منهم أجمل لوحة فسيفسائية إنسانية عنوانها ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلناكُم شُعوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣].

فالإسلام وحَّدهم وجمعهم ولم يُلغِ تنوّعهم، وإنما ألغى تعصبهم وانتماءهم لأي شكل من أشكال العصبية العرقية وغيرها، وفرض عليهم انتماءً واحداً لا غير وهو الإسلام! وكان هذا من أهم عوامل القوة والنصر لدى المسلمين.

نعم، فَهِم الرعيل الأول هذا الأمر حق الفهم، فمتى يفهمه غيرهم ممن جاء بعدهم؟!

عدو المسلمين أياً كان يعي هذا الأمر جيداً، لذلك تراه ينشط في هذا المجال بكل ما أوتي من قوة ليحيي القوميات والعصبيات، ويفكك ما وحده الإسلام بين أتباع الدين الواحد والنبي الواحد والكتاب الواحد واللسان الواحد! وهذا بلا شك يسهل عليه إضعاف المسلمين ثم هزيمتهم والسيطرة عليهم وعلى مواردهم الضخمة.

وإني لأعجب إلى مدى دقة اليهود في فهم هذا الأمر! فتراهم يصرخون في هتافاتهم وإعلامهم بوصف المسلمين بـ(العرب)، فيقولون:(الموت العرب)، يقصدون (المسلمين) تحديدًا؛ ذلك لأنهم يعلمون أن كل مسلم غالبًا يكون عربي اللسان. فالعجب كيف يفطن لهذا المفهوم اليهود، ويغفل عنه المسلمون!

أذاب الإسلامُ مفهومَ (القومية)، وقَلَب مفهوم (العربية) أيضًا فصار لها مفهوم جديد. وهكذا نرى كيف تنافر مصطلح (القومية العربية) في دلالته على جنس العرب!

فاللسان العربي عمومًا يعد إضافةً وإثراءً إلى الإنسان الناطق به لا ساحبًا له من لسانه وعرقه الأصيل.

وبعبارة أخرىفمفهوم (القومية) قد يصلح لكل قوم سوى العرب! ولكل لغة قومية سوى العربية؛ وذلك لسبب رئيس بسيط أشرتُ إليه سابقًا، وهو أن العربية لغة سماوية ولغة دين عالميهذا فيما يتعلق بالعربية، وأن العرب الأوائل اختيروا لحمل الإسلام! ولأن رسالة الإسلام للناس كافة فكان المناسب لمن يحمله ويقدمه للناس ممن لا يتسلل إليهم أي مفهوم يؤدي إلى القومية والعصبيةوهذا فيما يتعلق بالعرب؛ لأن ذلك التعصب القومي لو وُجِد أساسًا لكان تناقضًا مع مضمون الرسالة، وكان داعياً لنفور الناس منهاوحاشى وكلا! ولذلك جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة تحذر بل تنفّر وتَصِم مَن يمارسها بالجاهلية أي مرحلة ما قبل الإسلام!

جاء في الحديث الصحيح : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ”الحديث . رواه مسلم برقم(1848 قال النووي في شرحه”ومعناه إنما يقاتل عصبيةً لقومه وهواه”.

فما بعد الإسلام ليس كما قبله في المفاهيم والمعاني والسلوكيات.

وبهذا ارتبط مفهوم القومية بالجاهلية ولا حظ له في الإسلام! ووُصِم كل مَن يحييه ويمارسه بالجاهلي!

وخلاصة القول

إن مصطلح (القومية العربية) إذا أردنا به جنس العرب فهو لا ينسجم مع الإسلام! بل هو من مخلفات الجاهلية.

وبالجملة فمن نادى به أو ينادي به من الناس مريداً به العرب تحديداً دون غيرهم فهو يريد أن يرجعهم إلى عصر الجاهلية والعياذ بالله.

بل إن المناداة بالقومية العربية هي تقزيم للعرب وتحجيم لهم، وتعني تنحيتهم عن وظيفتهم المقدسة التي اختارهم الله تعالى لتأديتها مع شروق شمس الإسلام..

ولو عدنا لتاريخ من نادَوا بالقومية العربية وفتشنا سِيَرَهم الذاتية لوجدنا لهم ارتباطاً وثيقًا بالاستعمار وأغراضه وأهدافه، سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموا!

وسبحانك اللهم لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.