يجترئ بعضهم على الدين فيربطه بالوطنية! بل إن بعضهم يستشهد له بأحاديث موضوعة! كـ( حب الوطن من الإيمان) ونحوه!
والذي يعرف طبيعة الإسلام يعلم يقيناً أنه رسالة عالمية! بل هذا من سمات هذه الرسالة العظيمة! وهي بهذا المفهوم عابرة للحدود المصطنعة بين البشر، ولا تعترف بها أساسًا.
وهذا لا يجافي أبداً حب المكان أو إن شئت فقل الوطن الذي نشأ فيه الإنسان وترعرع وسكن، وهذا يعني التعلق بهذا المكان! لا غير، وينبغي عدم الخلط بين التعلق المكاني لسبب ما كالنشأة أو طلب العلم أو ذكرى ما بجعل ذلك سببًا للبناء عليه ثم توظيف بعض الأفكار الدخيلة التي تخدم بعض النُظُم لتثبيت سلوكها! وجمع ولاء القوم لها.
فالتعلق بالمكان وحبه فطرة إنسانية لا تنكر، أما أن يجعل من ذلك عقيدة وفكراً يكرس تقسيم الأمة وتفرقتها فهو الخطر الداهم الذي يحرص عليه من لا يريدون لهذه الأمة النهوض من كبوتها! فلنحذر هذه الدعاوى التي تثبت مفهوم العنصرية على أساس الوطن! فهي كلمة حق أريد بها باطل!
لا ننكر حب الأوطان والتعلق بها لأي سبب كان! ولكن ننكر استغلال هذا الفطرة بجعلها فكرةً هدامة تكرس العنصرية والفرقة بين الأمة. ﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].
فحذار حذار من الوقوع في هذا المستنقع الذي وقع فيه أناس كنا نعدهم من الأخيار! مجاملةً أو غفلةً! فصرنا نسمع ونرى مقولات بناءً على هذا الفهم الخاطئ مثل قولهم:( كذا وأفتخر، كذا وأفتخر)! رافعاً عقيرته مفتخراً بحدود صنعها المحتل؛ تكريساً للتعصب الوطني، وإيغالاً لصدور الآخرين، وإيقاداً لنار الفتنة.
ولقد سمعتُ أحد مَن تسوروا الدين يصيح مفتخراً (مغربي وأفتخر)! فسقط من عيني، ويحه كان عليه إن كان مفتخراً أن لا يفخر إلا بدينه وحسب، ولكن يأبى الله إلا أن يعرفنا هؤلاء بلحن القول والفعل!
وربما تأثر بعض من لا علم له بالدين أو كان علمانياً خالصاً بما عند غير المسلمين من ذلك أعني فكرة الوطنية، وجعلها الأساس في عقيدة الانتماء والولاء!
وهذا سبيل من لا يعرف طبيعة الدين!
فالإسلام ليس كغيره!
عقيدة الانتماء والولاء فيه تقوم على الإيمان بكل مافيه جملة واحدة!
ومن ثَمَّ فلا حدود بين ربوعه التي فتحها الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ومَن أتى بعدهم من الخلفاء والأمراء والسلاطين الفاتحين. جزاهم الله عن الأمة خير ما يجزى والياً عن رعيته.
ولننظر إلى الرسول ﷺ كم كان محباً متعلقًا بمكة ولكنه فارقها لغاية أعظم وهي رسالة الإسلام! وكذلك فعل الصحابة، فغالبهم توفي خارج الجزيرة العربية في الفتوحات. فهل يقال عنهم: لا يحبون وطنهم؟! حاشى وكلا. ولكنهم قوم يفقهون رسالة الإسلام وعرفوا أنها هي محور حياتهم ودونها أي أمر آخر من أمور الدنيا كالتعلق القلبي في الزمان أو المكان أو الأعيان.
عن عبدالله بن عباس أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه خَرَجَ، وعُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقالَ: اجْلِسْ، فأبَى، فَقالَ: اجْلِسْ، فأبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فَمَالَ إلَيْهِ النَّاسُ، وتَرَكُوا عُمَرَ، فَقالَ: “أَمَّا بَعْدُ، فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَاتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى {الشَّاكِرِينَ}” [آل عمران: 144]، واللَّهِ لَكأنَّ النَّاسَ لمْ يَكونُوا يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فَتَلَقَّاهَا منه النَّاسُ، فَما يُسْمَعُ بَشَرٌ إلَّا يَتْلُوهَا..(رواه البخاري في صحيحه برقم: 1242).
فانظروا كيف لفت الصديق رضي الله عنه أنظار الصحابة وصحح بوصلتهم وذكرهم بأنهم مهما تعلقوا بشخص النبي صلّى الله عليه وسلم، إلا أن رسالتهم هي عبادة الله تعالى الحي الذي لا يموت، وعليه يُعقد القنوت.
أما أن يؤتى بالوطنية وغيرها من الأسماء فتُجعل إلهاً يُعبد من دون الله عز وجل، ويُعقد حولها الولاء والانتماء! فهذا مما لم يأذن به الله.
فإذا أردنا أن نفهم الوطنية فهماً صحيحاً فعلينا أن نفهمها وفق التصور الإسلامي، في صورة تتماهى مع أصوله، وتتماشى مع طبيعته الوحدوية التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وعلى هذا فالوطنية في الإسلام تعني أرض الإسلام مهما بلغت، وأينما اتسعت، وكلها تشكل وطنًا واحداً لأمة واحدة تدين بدين واحد هو دين التوحيد الخالص. لا نفرق بين أرض وأرض إلا فيما فضل الله بعضها على بعض في المكانة والقداسة، كما فضل سبحانه بعض الأزمنة على بعض. وكما فضل بعض الناس على بعض! ومع ذلك فكلها لا تخرج عن الإطار الوحدوي للإسلام.
هذا هو مفهوم الوطن والوطنية في الإسلام، فإن فهمناه وتشربنا حبه وفق هذا التصور فهو المراد، وعليه يصلح أمر البلاد والعباد، والله يهدي إلى سبيل الرشاد.