أرسل إلي أحد الفضلاء مقطعاً مصوراً لبعض من ينسبون أنفسهم إلى العلم الشرعي، وكان أحدهم يعقد قياساً بين مسألتين مختلفتين بفهم ساذج، وأسلوب سمج مبتذل! لا يليق بشريعة الله! وكان كلامهم مدعاةً إلى الوقوف عنده لا الرد عليه؛ ذلك لأنه لا يستحق الرد! فخَطَلُه بيّن لكل ذي حِجْر.
ويكفي لبطلانه بطلان القياس الذي اصطنعه لنفسه، فلا مقارنة أصلاً ولا مقايسة ولا مقاربة بين أمر دونه زوال الدنيا وهو سفك دم المسلم كما في الحديث الصحيح، وهو من الأصول، ومسألة من مسائل الدين الفرعية، وهي مسألة التنزه من البول!
ناهيك عن تألّيهِ على الله في معرفة الغيب! فنفى معرفة من يهتمون في أمر المسلمين في فلسطين بتلك المسألة الفرعية على الإطلاق، وكأنه اطلع على ملايين المسلمين وعرف ذلك منهم! ﴿أَطَّلَعَ الغَيبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحمنِ عَهدًا﴾ [مريم: ٧٨]؟!
مع أنه هو نفسه لم يحسن معرفة تلك المسألة التي استدل بها، حيث أغفل ما فيها من تفصيل وأطلق العذاب لمن لا يعرفها دون قيد! مع أن هذا وأضرابه متفننون في هذه المسائل، عاشقون لها، متوغلون فيها.
هذه الإطلاقات في الأحكام لا تصدر عن عاقل، فضلاً عن عالم أو فقيه.
على أن إصرارهم على مثل هذه المقارنات، في مثل هذه الأوقات، يحمل مخططاتٍ لا يمكن إحسان الظن فيها غالباً. فإن هذا الطرح القائم على التهوين مما يحدث للمسلمين من قتل وتجويع وتنكيل في بلاد شتى، ولا سيما في غزة لا يمكن أن يكون بريئاً، ولا سيما أنه يلتقي مع غايات اليهود. بل يكاد العاقل يجزم أن لهذا الطرح ارتباطاتٍ مشبوهةً!
ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ ومع ملاحظة زيادة نشاط بعضهم مؤخراً بإشاعة مثل هذه المقولات في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كان لابد من الكلام على معضلة فتكت وما زالت تفتك بالإسلام والمسلمين!
فعند إنعام النظر في أحوال كثير من الجماعات والأحزاب والطوائف المنتسبة إلى الإسلام خلصت إلى نتيجة واحدة! ينبغي إظهارها للعالمين!
ألا وهي أن الإسلام الحقيقي مختطَف من قبل هذه الجماعات والأحزاب والطوائف! على حد قول القائل:
وكلهم يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
غالبهم أوهم نفسه وغيره بأنه يمثل الإسلام الحقيقي الذي أنزل على محمد ﷺ! فنصَّب نفسه وصياً أو وكيلاً، ولو قلتَ : ناطقاً رسمياً باسم الإسلام لما أبعدتَ النجعة!
وعندما أنعمتُ النظر مرةً بعد مرة في مقولاتهم وتصوراتهم للإسلام خرجتُ بنتيجة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي: أنهم يمثلون النسخة (الإسلامية) للكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا التي تعارف عليها المؤرخون بـ( العصور المظلمة)!
وهذا ما حذرنا الله منه في كتابه حيث قال: ﴿مُنيبينَ إِلَيهِ وَاتَّقوهُ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكونوا مِنَ المُشرِكينَ مِنَ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا كُلُّ حِزبٍ بِما لَدَيهِم فَرِحونَ﴾ [الروم: ٣١-٣٢].
أَيْ: صَارُوا فِرَقًا مُخْتَلِفَةً وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (معالم التنزيل للبغوي).
يقول العلامة السعدي في تفسيره “وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من تشتُّتهم وتفرُّقهم فرقًا، كلُّ فريق يتعصَّبُ لما معه من حقٍّ وباطلٍ، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرُّق، بل الدين واحدٌ، والرسول واحدٌ، والإله واحدٌ، وأكثر الأمور الدينيَّة وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمَّة، والأخوَّة الإيمانيَّة قد عقدها الله وربَطَها أتمَّ ربط؛ فما بالُ ذلك كلِّه يُلغى ويُبنى التفرُّقُ والشقاقُ بين المسلمين على مسائل خفيَّةٍ أو فروع خلافيَّةٍ يضلِّلُ بها بعضُهم بعضًا ويتميَّز بها بعضُهم عن بعضٍ؟! فهل هذا إلاَّ من أكبر نزغات الشيطانِ وأعظم مقاصدِهِ التي كاد بها المسلمين؟! وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالةِ ما بينَهم من الشقاق المبنيِّ على ذلك الأصل الباطل إلاَّ من أفضل الجهادِ في سبيل الله وأفضلِ الأعمال المقرِّبة إلى الله؟!”.
فبعضهم حكر الإسلام على فهمه هو دون غيره!
وبعضهم جعل حزبه هو الإسلام الحق، والصراط المستقيم، فمن تبعه، وكان من حزبه فهو على الحق المبين! فضيق واسعاً وضل الطريق.
وبعضهم صار يوزع -كما كان يفعل الكهنوت في العصور الوسطى- صكوك الغفران والتوبة والهداية.
وبعضهم أخذ جزءاً من الدين، وقدمه على أنه هو الإسلام! وتغافل عن أن الإسلام وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة.
وبعضهم جعل من نفسه ناطقاً عن الله فصار يصنف الناس: مَن يُعذب ومَن لا يُعذب! ومَن في النار ومَن في الجنة! وكأن أمر ذلك منوط به!
مع أن الله تعالى خاطب نبيه وخليله ﷺ بأن أمر العذاب والتوبة ليس من شأنه، فقال سبحانه: ﴿لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ أَو يَتوبَ عَلَيهِم أَو يُعَذِّبَهُم فَإِنَّهُم ظالِمونَ﴾ [آل عمران: ١٢٨].
قال ابن كثير في تفسيره:” قال محمد بن إسحاق في قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. ثم ذكر تعالى بقية الأقسام، فقال: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي: يستحقون ذلك.
وقال البخاري: حَدَّثَنَا حبان بن موسى، أنبأنا عبد الله، أنبأنا معمر، عن الزهري، حدثني سالم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر يقول: “اللهم العن فلانًا وفلانًا” بعدما يقول: “سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد” فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ … ﴾ الآية “.
على العاقل الذي يروم السلامة بالإسلام أن لا يتجاوز الكتاب والسنة بفهمٍ حقيقي من مصادره الأصيلة الصحيحة! وأن لا يجعل من نفسه إمعةً لا يَرى إلا ما يُرى له!
بل لو عوّد نفسه النظر في كتب أهل العلم الحقيقيين الموقعين عن رب العالمين! -كما نعتهم ابن القيم- لا كتب وترهات المزورين عن رب العالمين ﷻ لقضي الأمر وهُدي إلى صراط مستقيم!
فتجد في تلك الأصول ما يُفتّق الذهن ويجعله منفتحاً على الآراء والأفكار المنوعة التي تتعامل مع النص بعقلية سليمة ولغة عربية متقنة.
ولَتَعَلّم كيف يكون التعامل مع النصوص الشرعية، ولتعلم أدب الاختلاف والحوار بين العلماء والفقهاء.
وياللأسف يحاول هؤلاء المتحزبون أن يُعَمُّوا عن جماهير أتباعهم أن أعظم مظهر من مظاهر التفكير الحر في الإسلام هو ذلك التراث العلمي المذهل الذي أنتجته عقول علماء الأمة الأوائل، وما تلك المذاهب الفقهية والآراء التفسيرية حتى في النحو واللغة إلا صورة ناصعة لامعة لذلك التفكر والتفكير الذي هو سمة من سمات هذا الدين! الذي مازال بعضهم يصر على أن يقدمه إلى الناس بثوب ليس بثوبه! يقدمه بصورة دين التحجر والتخلف والرأي الواحد والاجتهاد الواحد والمذهب الواحد!
والإسلام الحق براء منهم ومما يعملون.
على العاقل أن لا يلوث نفسه بمثل هذه الصور التي لا تليق بالإسلام.
والتي لا أستبعد أن لأصحابها أهدافاً وغاياتٍ ومخططاتٍ وارتباطات لا علاقة لها بالدين! بل للنيل منه وتهشيمه وتهميشه!
فنحن في زمن أصبحت فيه المصالح الدنيوية هي القبلة التي يتجه إليها الناس في شتى أمورهم… حتى التدين! إلا من رحم ربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الإسلام الذي نعرفه هو (التوحيد الخالص لله) لا أن يشرك معه غيره بشتى أنواع الشرك، كما فعل بعض أهل الكتاب عندما جعلوا من أحبارهم مشرِّعين، فأحلوا الحرام وحرموا الحلال بما وضعوا لهم من قوانين.
﴿اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ﴾ [التوبة: ٣١].
الإسلام الذي نعرفه هو دين اليسر والتيسير، لا العسر والتعسير، دين البشر والتبشير، لا النَّفْر والتنفير.
﴿يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ﴾ [البقرة: ١٨٥].
﴿وَجاهِدوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجتَباكُم وَما جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبيكُم إِبراهيمَ هُوَ سَمّاكُمُ المُسلِمينَ مِن قَبلُ وَفي هذا لِيَكونَ الرَّسولُ شَهيدًا عَلَيكُم وَتَكونوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ فَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعتَصِموا بِاللَّهِ هُوَ مَولاكُم فَنِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصيرُ﴾ [الحج: ٧٨].
الإسلامُ الذي نعرفه هو دين القواعد الفقهية ( الأمر إذا ضاق اتسع) (المشقة تجلب التيسير) ونحوها.
أما أن يأتي شخص كائناً من كان أو حزب أو طائفة فيختطف الإسلام ويفصّله على هواه وهوى مَن يشغله، ويجعل من نفسه الوصي عليه،
ويعلن أن ما رآه هو الحق وما خالفه هو الباطل! فهذا ليس بالدين الذي ارتضاه الله.
ولنا في قصة بني قريظة يوم أن رجع رسول الله ﷺ من غزوة الأحزاب عبرة، فعَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْأَحْزَابِ : ” لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ “. فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نُصَلِّي ؛ لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. رواه البخاري 946، 4118.
فانظر -رعاك الله- كيف أقر النبي ﷺ الفريقين على فهمهم لقوله، ولم يعنف أحداً منهم! مع أن المقام يتعلق بصلاة مفروضة! وليس أي صلاة بل هي الصلاة الوسطى التي نزل فيها قرآن يتلى! ﴿حافِظوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الوُسطى وَقوموا لِلَّهِ قانِتينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨].
ثم انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم في أدب الخلاف في الرأي، كيف فعل كل فريق منهم ما فهمه دون نكير أو تهويل أو تفسيق أو بغض للفريق المخالف! هذا ما كان عليه الرسول الكريم ﷺ وصحابته الأبرار رضي الله عنهم أجمعين. وهذا هو منهج السلف الصالح في الانفتاح على الآراء المختلفة مادام النص محتملاً لها.
وثمة فريق آخر …متربص بالإسلام! لا يدع فرصة سانحةً يمكّنه إياها هؤلاء المختطفون للإسلام إلا استغلوها أسوأ استغلال؛ ليدللوا على ضلالهم، ويسوِّغوا انسلاخهم من الدين! هؤلاء القوم هم دعاة فصل الدين تماماً عن الحياة العامة فلا أحد أحفل منهم بالفرح بالأنموذجات المشوهة التي يقدمها هؤلاء.
وكأن قدر المسلم الحق في أن يعيش في هذه الأزمان بين مُفْرِطٍ جاهل، ومُفرِّط غافل.
فنسأل الله تعالى التبصير في الدين.