التصنيفات
مقالات

إضاءة في ذم التوسع في تصحيح الأحاديث، ومنهج أهل العلم في ذلك

لا أريد الإطالة في هذا الموضوع كي لا يمله عموم الناس، ويبدوَ كأنه بحث حديثي متخصص جاف؛ ولذلك فإني سميتها إضاءة! بيد أني سأختصر جداً مكتفياً بالإحالة إلى نصوص المحققين من العلماء. 

شاع في العصور المتأخرة أمرٌ لا نجده في القرون الأولى قرون الرواية، ذلك هو أمر التوسع في تصحيح الأحاديث المروية عن النبي ﷺ ، والتساهل في ضبطها، والنظر فيها، والتحقق من سلامتها من العلل، الذي هو علم من أعز علوم الحديث وأصعبها؛ لأنه يقتضي إنفاق وقت ليس بالهين في تتبع الروايات وسبرها والنظر فيها والرجوع إلى أقوال أهل العلم فيها، وهو أمر لا يتوافق مع بعض المتأخرين الذين اشتغلوا في تحقيق الكتب ونشرها، والتكسب منها؛ وهذا أدى فيما أدى إليه إلى تكثير الأحاديث التي صححوها ونسبوها إلى النبي ﷺ! 

فهل هذا منهج سوي؟

وهل هو منهج أهل العلم بالحديث المتقدمين كالأئمة: مالك، والشافعي وأحمد، والبخاري وشعبة وابن المديني والسفيانيين وأبي حاتم ونحوهم وأقرانهم، ومن جاء بعدهم من محققي المتأخرين كابن تيمية وابن رجب؟!

الجواب سيتضح عند عرض النصوص الآتية عن أهل العلم. 

يقول ابن الأخرم : «قل ما يفوت البخاري ومسلما مما يثبت من الحديث» (تاريخ بغداد 13/ 102). 

وروى البيهقي في مناقب الشافعي ص915: “سئل الإمام الشافعي : كم أصول السنة (أي أصول الأحكام)؟ فقال : خمسمائة وثلاثين” .

ويوضح ما ذكرناه أبو عبد الله الحاكم فيقول : “إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع ، وليس بهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما خفي من علة الحديث ، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير ، عن علته ، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته”(معرفة علوم الحديث ص59).

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي : “قد صنف في الصحيح مصنفات أخـر بعـد صحيحي الشيخين ، لكن لا تبلغ كتابي الشيخين ؛ ولهذا أنكر العلماء على من استدرك عليهما الكتاب الذي سماه «المستدرك» ، وبالغ بعض الحفاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد على شرطهما ، وخالفه غيره وقال : يصفو منه حديث كثير صحيح . والتحقيق أنه يصفو منه صحيح كثير على غير شرطهما ، بل على شرط أبي عيسى (الترمذي) ونحوه ، وأما على شرطهما فلا ، فقل حديث تركاه إلا وله علة خفية، لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده ، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة ، صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما والوثوق بهما والرجوع إليهما” (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة ص24). 

يقول محققو مقدمة تحقيق صحيح مسلم ط التأصيل ص 98- 99: “والحق أن كثيرًا مما نسبه المتأخرون إلى الصحيح ودعواهم على شرط الشيخين أو قولهم : صحيح دون نسبته إلى شرط الشيخين إنما هو بمجرد ظاهر الإسناد دونما تفتيش أو بحث عن العلة، وهذا من التوسع الذي ذمه المحققون من أهل العلم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية منتقدا هذه المسالك (مجموع الفتاوى 13/ 353): “والناس في هذا الباب (أي باب قبول ورد النصوص) طرفان : طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها ، مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به ، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به، كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته ، حتى إذا عــارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا له في مسائل العلم ، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط” .

وهذا كلام رصين يكتب بماء الذهب ، يكشف فيه شيخ الإسلام رحمه الله حقيقة هذا التوسع في تصحيح الأحاديث الذي هو سمة عمل كثير من المتأخرين ، وأنه خلاف عمل الأئمة الكبار رواد هذا الفن .

ومن الإيضاحات الهامة حول هذا الأمر ما قاله ابن رجب الحنبلي (شرح علل الترمذي 2/ 582): “وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه ، واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه” .

ونختم بکلام عالم آخر يكشف فيه عن مدى التوسع المذموم الذي عم مناهج المتأخرين من أهل الحديث ، يقول العلامة المعلمي : والمتأخرون كابن حبان والدارقطني يقبلون أفراد الثقات مطلقا”. 

وفي هذا القدر كفاية لمن أراد الحقيقة في هذه المسألة المهمة، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.