التصنيفات
مقالات

قصة الإنسان

لن أخوض في هذه القصة فيما لا طائل من الخوض فيه، وفيما استأثر الله تعالى بعلمه! أعني (لماذية) خلق الإنسان، وجعله خليفةً في الأرض، مع أن الله سبحانه مستغنٍ بذاته عن العالمين وعبادتهم؟!

﴿وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ﴾ [البقرة: 30].

بيد أن من الضروري التذكر دوماً بأن الدنيا بدأت بمعصية!

وأن بداية حياة الإنسان فيها كانت عقوبة!

ومن الجيد أن نستحضر هذه المقدمات عندما نريد أن نفهم حياتنا في هذه الدنيا بوصفنا أبناء آدم عليه السلام. 

وهذا يدلنا بطبيعة الحال على كيفية التعاطي مع كل ما هو موجود في هذه الحياة الدنيا. 

هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض وخروجه من الجنة ترتب عليه سنن ربانية كثيرة منها :

  • سنة التدافع: ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ﴾ [البقرة: 251]. 
  • وسنة العداوة: ﴿وَقُلنَا اهبِطوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حينٍ﴾ [البقرة: 36]. 
  • وسنة مآل الأمر في النهاية إلى أهل الحق الذين يتمّ استضعافهم في غالب فصول هذه الدنيا: ﴿وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ﴾ [القصص: 5]. 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا﴾ [النور: 55]. 

﴿وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا المُرسَلينَ ۝ إِنَّهُم لَهُمُ المَنصورونَ ۝ وَإِنَّ جُندَنا لَهُمُ الغالِبونَ﴾ [الصافات: 171-173]. 

  • وسنة البقاء للأنفع: ﴿كَذلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ كَذلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ﴾ [الرعد: 17]. 
  • ومن السنن أن حياتنا في هذه الدنيا مؤقتة، فالموت حتمي يفجأ صاحبه للولوج إلى حياة ثانية فاصلة بين الحياة الدنيا وحياة الآخرة تلكم هي الحياة البرزخية: ﴿كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يَومَ القِيامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ﴾ [آل عمران: 185]. ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتونَ﴾ [الزمر: 30]. 
  • ومن السنن أن الله تعالى أوجد الشيطان وأخرجه مع آدم وذريته وأهبطه معهم الأرض ليكون لهم عدواً مبيناً، حدد له مجالاً في الصراع مع هذا الإنسان لا يتعدى الوسوسة؛ عدلاً وحكمة! كيف لا؟ وهو أس المشكلة، وسبب وجودنا على هذه الأرض؟

فمن استجاب له فسيقع في معصية ما، ومن دفعه ولم يجبه سَلِم وغَنِم. 

ولعل الحوار الذي دار بين الخالق سبحانه وإبليس -لعنه الله- بعد عصيانه لأمر الله، والذي تم بموجبه لعنه وطرده وإخراجه إلى الأرض،  والذي سجله القرآن الكريم يلخص لنا ذلك:

﴿قالَ فَاخرُج مِنها فَإِنَّكَ رَجيمٌ ۝ وَإِنَّ عَلَيكَ اللَّعنَةَ إِلى يَومِ الدّينِ ۝ قالَ رَبِّ فَأَنظِرني إِلى يَومِ يُبعَثونَ ۝ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرينَ ۝ إِلى يَومِ الوَقتِ المَعلومِ ۝ قالَ رَبِّ بِما أَغوَيتَني لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي الأَرضِ وَلَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعينَ ۝ إِلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخلَصينَ ۝ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُستَقيمٌ ۝ إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوينَ ۝ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوعِدُهُم أَجمَعينَ﴾ [الحجر: 34-43]. 

وإن حياةً سميت بأنها (دنيا) ولها وقت معلوم، ولكل نفس فيها أجل محتوم، قد يطول وقد يقصر، لكنه في ذاته يظل قصيراً جداً كأنه ساعة من نهار في معيار الخالق ﷻ : ﴿كَأَنَّهُم يَومَ يَرَونَ ما يوعَدونَ لَم يَلبَثوا إِلّا ساعَةً مِن نَهارٍ ﴾ [الأحقاف: 35]، هل تستحق هذه الحياة بهذا العمر القصير أن تُهدر فيما لا يعود بالنفع على صاحبه وغيره؟!

وإني لَسائلُك بربك، هل حياة بهذا الوصف جديرة بالظلم والغش والمكر، والشقاق والنفاق، وأكل الحرام، وهدرها بخدمة اللئام، واسترضاء الشيطان؟!

لستَ مطالباً بأن تكون ملاكاً لا يخطئ ولا يغلط! كلا. 

بل لابد من ذلك…فطبع بني أدم مجبول على ذلك! ولولاه لما كنا على الأرض الآن!

ولكن خير الخطائين التوابون الأوابون. 

وهذا يعني أن هذا الإنسان من أوجب واجباته في حياته الدنيا أن يعمل أولاً على نجاته… وذلك بالتوحيد الخالص وما يترتب عليه. 

﴿وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرينَ﴾ [آل عمران: 85]. 

ويعني ثانياً وثالثاً ورابعاً الخ…أن يترك أثراً ينفعه وينفع غيره من بعده. فلا يهدر حياته بسخيف القول والعمل. 

وليس يُطالب كلٌّ منا بما لا يطيق! بل على العاقل أن يفهم أن المطلوب هو  القيام بما يحسنه ويتقنه، كلٌ في مجاله، وقد قيل (قيمة المرء ما يحسنه). 

ولا أرى الأمر عسيراً بل على النقيض هو يسير، أُراه قد لُخِّص بقوله سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم﴾ [التغابن: 16]. وهو أصل من أصول الدين والحياة والنجاة. 

فمن آمن بالله واتقى الله ما وسعه ذلك في نفسه وفي غيره فقد نجا وأفلح. 

كن كما أنت فليس مطلوباً أن تكون نسخة من غيرك. 

احفظ دِينك ونفسك (صحتك) ومالَك، فهذا المثلث هو صديقك الصدوق. 

لا تنافس أحداً فليس مطلوباً منك أن تكون كغيرك، ولا غيرك أن يكون إياك. 

واعلم أن لا ضمانات في هذه الحياة الدنيا. 

من أي نوع كان…

من المرض… من الفقر …من الموت المفاجئ … من الجوائح …الخ. 

فعش حياتك بأسلوب صحيح متوازن يرضي الله تعالى أولاً وآخراً. 

واجعل شعارك فيها( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا). 

وأن ( ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك). 

بذلك تستطيع أن تعيش حياتك بلا قلق أو أرق، أو خوف من المستقبل. 

واعلم بأن المرحلة الحاسمة، ونقطة التحول في حياة الإنسان هي التي يصبح فيها لا يأسى على ما فات، ولا يفرح بما هو آت!

والاكتفاء بما بين يديه، والاستغناء عما سواه. 

عندئذ يصل مرحلة النضج العقلي، والاستقلال الفكري، والانعتاق المادي!

وهنا تبدأ مرحلة السعادة الحقيقية في حياته. 

فلا ينتظر شيئاً، ولا يأسف على شيء، كله سيان!

إن جاء ما أراد فخير، وإن لم يحصل فخير أيضاً!

هنا مقر السعادة وكنهها. 

فإن وصلت إلى هذه النقطة فأهلاً بك في الجنة! حيث السلام النفسي، والأمان الداخلي، والتصالح مع كل شيء! 

وأهلاً بك في دار السعادة التي سوف تستمر معك إلى ما لا نهاية. 

ولكن…مهلاً…

تذكر أنك لن تعبر هذه الحياة حتى تعلم أن من الدروس المهمة فيها،  أنك ستدفع ثمناً قد يكون باهظاً! وذلك عندما تكون حقيقياً بين أناس زائفين، وعندما تكون تقياً بين فاسقين، وعندما تكون نقياً بين ملوثين، وعندما تكون قيِّماً بين تافهين. 

والحمد لله على كل حال…

13 تعليق على “قصة الإنسان”

كل ما تخطه يمناك رائع ومفيد وفيه كل العبر والدروس التي نتوق إليها دوماً،،،، ولكن هذه المقالة لا أدري أثرت بي كثيراً ومن أروع ما قرأت وتمعنت ، لقد لامست قلوبنا وعقولنا لأنها تتحدث عن ذاتنا عن الإنسان، بارك الله فيك يا شيخنا ودكتورنا الرائع المتفوق دائماً دمت عزاً وفخراً وسنداً كل الإحترام والتقدير .

التعليقات مغلقة.