حديث:” ويح عمار! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار “عند البخاري 447، 2812، وغيره، ونصه بتمامه:
قال البخاري:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ : انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا، حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ : كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ : ” وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ “. قَالَ : يَقُولُ عَمَّارٌ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ”.
ورد في بعض نسخ البخاري عبارة زائدة بعد قوله ﷺ:ويحَ عمار! وهذه العبارة هي:[تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ]، ولم تثبت هذه الزيادة بين الحاصرتين على شرط البخاري كما قال الحميدي؛ ولذلك فهي في بعض النسخ فقط عنه وقعت مُدرجَة! وحَذْف البخاري لها يدل على تبحره في علم العلل كما قال ابن حجر في فتح الباري.
والمراد في هذا الحديث: كفار قريش، فعود الضمير في ( يدعوهم) إليهم، والله أعلم.
وأما مَن أثبت الزيادة، وقد وردت على شرط غير البخاري رحمه الله، فيمكن حمله على قتلة عمار، فهاء الضمير تعود إليهم، والله أعلم.
ولإتمام الفائدة أنقل نص ابن حجر في الفتح فهو من أفضل ما رأيته في هذه المسألة.
يقول ابن حجر رحمه الله:
“قوله: ( ويقول ) أي في تلك الحال ( ويح عمار ) هي كلمة رحمة، وهي بفتح الحاء إذا أضيفت، فإن لم تضف جاز الرفع والنصب مع التنوين فيهما.
قوله: ( يدعوهم ) أعاد الضمير على غير مذكور والمراد قتلته كما ثبت من وجه آخر : ” تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلخ ” وسيأتي التنبيه عليه. فإن قيل : كان قتله بصفين وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار ؟ فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم.
وقال ابن بطال تبعا للمهلب: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي عمارا يدعوهم إلى الجماعة، ولا يصح في أحد من الصحابة. وتابعه على هذا الكلام جماعة من الشراح. وفيه نظر من أوجه:
أحدها: أن الخوارج إنما خرجوا على علي بعد قتل عمار بلا خلاف بين أهل العلم لذلك، فإن ابتداء أمر الخوارج كان عقب التحكيم، وكان التحكيم عقب انتهاء القتال بصفين وكان قتل عمار قبل ذلك قطعا، فكيف يبعثه إليهم علي بعد موته.
ثانيها: أن الذين بعث إليهم علي عمارا إنما هم أهل الكوفة بعثه يستنفرهم على قتال عائشة ومن معها قبل وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة جماعة كمن كان مع معاوية وأفضل، وسيأتي التصريح بذلك عند المصنف في كتاب الفتن، فما فر منه المهلب وقع في مثله مع زيادة إطلاقه عليهم تسمية الخوارج وحاشاهم من ذلك.
ثالثها: أنه شرح على ظاهر ما وقع في هذه الرواية الناقصة، ويمكن حمله على أن المراد بالذين يدعونه إلى النار كفار قريش كما صرح به بعض الشراح، لكن وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما وكذا ثبت في نسخة الصغاني التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري التي بخطه زيادة توضح المراد وتفصح بأن الضمير يعود على قتلته وهم أهل الشام ولفظه :” ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم … ” الحديث.
واعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع وقال: إن البخاري لم يذكرها أصلا، وكذا قال أبو مسعود. قال الحميدي: ولعلها لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدا. قال: وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقاني في هذا الحديث. قلت: ويظهر لي أن البخاري حذفها عمدا وذلك لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري، وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد وحملهم لبنة لبنة وفيه فقال أبو سعيد : ” فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ” ا هـ. وابن سمية هو عمار وسمية اسم أمه. وهذا الإسناد على شرط مسلم، وقد عين أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم والنسائي من طريق أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : ” حدثني من هو خير مني أبو قتادة، فذكره ” فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذا دال على دقة فهمه وتبحره في الاطلاع على علل الأحاديث.
وفي هذا الحديث زيادة أيضا لم تقع في رواية البخاري، وهي عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرج من طريق خالد الواسطي عن خالد الحذاء وهي: ” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك ؟ قال: إني أريد من الله الأجر ” وقد تقدمت زيادة معمر فيه أيضا.
( فائدة ): روى حديث ” تقتل عمارا الفئة الباغية ” جماعة من الصحابة: منهم قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه، وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم، وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه.
قوله في آخر الحديث : ( يقول عمار أعوذ بالله من الفتن ) فيه دليل على استحباب الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرء أنه متمسك فيها بالحق؛ لأنها قد تفضي إلى وقوع من لا يرى وقوعه.
قال ابن بطال وفيه رد للحديث الشائع: ” لا تستعيذوا بالله من الفتن فإن فيها حصاد المنافقين ” . قلت: وقد سئل ابن وهب قديما عنه فقال: إنه باطل، وسيأتي في كتاب الفتن ذكر كثير من أحكامها وما ينبغي من العمل عند وقوعها. أعاذنا الله تعالى مما ظهر منها وما بطن” .
والمسألة محتملة للرأيين، موجهة بالشرحين، ومن رأى أنها لا تليق بالصحابة ونحوه كما ذهب ابن بطال وغيره ، فالقول في ذلك أن الصحابة من جنس المؤمنين، وهم غير معصومين، مع الاعتراف لهم بالفضل المبين، كما وصفهم الباري سبحانه: ﴿وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنّاتٍ تَجري تَحتَهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ﴾ [التوبة: 100].
ومع ذلك فقد يقع الخلاف، المفضي والعياذ بالله إلى الاقتتال، وهذا لا يخرج الفريقين من دائرة الإيمان فضلاً عن الإسلام! لأن كل طائفة منهم متأولة لرأي ما ؛ ولذلك فلا يجوز لأحد أن يبالغ في النكير على الفريق المخالف، وهذا ما كان من شأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فمع كل هذا الخلاف لم يكفر أحداً منهم أخاه، أو يذكره بسوء! بل ربما اعتذر عنه!
فما بالنا اليوم نخرج عن منهجهم ونجعل من الأمر سبباً لفتن مظلمة، وفرقة مثلمة؟!
ما ينبغي لنا أن نتجاوز منهج الله تعالى في مثل هذه المواقف والتي لخصها سبحانه بقوله: ﴿وَإِن طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنينَ اقتَتَلوا فَأَصلِحوا بَينَهُما فَإِن بَغَت إِحداهُما عَلَى الأُخرى فَقاتِلُوا الَّتي تَبغي حَتّى تَفيءَ إِلى أَمرِ اللَّهِ فَإِن فاءَت فَأَصلِحوا بَينَهُما بِالعَدلِ وَأَقسِطوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ﴾ [الحجرات: 9].
فانظر رعاك الله كيف وصف الطائفتين بالإيمان، مع أنهما تقتتلان!
ووصف إحداهما بالباغية مع أنها مؤمنة! فلا تثريب عليها أن تكون مؤمنة وباغية بالنظر إليها من جهة الدليل الصحيح، لا من جهة وجهة نظرها هي؛ لأنها – كما قدمت – هي متأوِّلة لا ترى نفسها باغية!
ثم انظر إلى السياق بعد الآية مباشرةً حيث جاء التقرير الرباني، والتأكيد القرآني، على أن ما قد يقع بين المؤمنين يبقيهم في دائرة هذا الوصف زائداً عليه وصفاً آخر بأنهم ( إخوة)! ثم انظر كيف جاء الأمر بالإصلاح بين الإخوة المؤمنين؛ تأكيداً لما سبق في الآية قبلها، وأن سلوك هذا السبيل مما يرجى به تنزل الرحمات عليهم: ﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمونَ﴾ [الحجرات: 10].
ثم ما لنا ولهم؟
فالأمر مضى وانقضى، وأمرنا وأمرهم إلى الله تعالى، هو يحكم بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين: ﴿تِلكَ أُمَّةٌ قَد خَلَت لَها ما كَسَبَت وَلَكُم ما كَسَبتُم وَلا تُسأَلونَ عَمّا كانوا يَعمَلونَ﴾ [البقرة: 134].
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
تعليقين على “ويحَ عمار!”
جزاك الله خيراً على هذا الشرح القيّم ، بارك الله فيك وفي علمك
أجمعين، اللهم آمين. نفع الله بك. وجعلني عند حسن ظنكم دوماً.