الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية ظاهرتان تعاني منها لغتنا العربية في مجتمعاتنا المنوعة! ولا خطر على اللغة وعلينا من الظواهر الطبيعية كالازدواجية اللغوية!
ولكن الخطر الداهم والبلاء القاصم من الظواهر التي لا تعد طبيعية كـ(ثنائية اللغة).
وكي نتصور هذا لا بد من فهم هذين المصطلحين وإزالة الإشكال عنهما، ولا سيما أن بعض الدارسين مازالوا يخلطون بينهما!
أما (ازدواجية اللغة) فهي قائمة بين اللغة الأم واللهجات والأساليب اللغوية التابعة لها، والتي تعيش معها في كيان لغوي واحد، كاللهجات الدارجة أو العامية في العربية، واللغة الأدبية الفصيحة القياسية (المعيارية).
وهذه الظاهرة أعني (الازدواجية اللغوية) ظاهرة طبيعية جاءت نتيجة لموقف اجتماعي خاص هو غاية في التعقيد! ممثلاً ومرتبطاً بظاهرة التطور اللغوي. وهذا موضوع كبير ألفت فيه كتب في العربية وغيرها (ينظر: علم اللغة الاجتماعي لأستاذنا د. هادي نهر ص 51).
أما (الثنائية اللغوية) فهي تعني السماح بوجود لغة أو أكثر مع اللغة الأم في مجتمع معين. فتسير جنباً إلى جنب مع اللغة الأم بلا داعٍ! فتُجعل لغة العلم في الجامعات، والإدارة في الإدارات! بل يُجعل إتقانها شرطاً لتولي المهام المنوعة! بل من المضحك أنني رأيتُ بعض الجامعات في بعض البلاد العربية تشترط لتعيين مدرسين في اللغة العربية لا غيرها! أن يكون مجتازاً لامتحان ( التوفل) أو (الإلتس) في اللغة الإنجليزية بما لا يقل عن درجة (6)! ولا أرى داعياً إلى ذلك سوى استمراء الغزو الأجنبي، والتبعية والانقياد له، والانصياع لمخططاته! وهي ظاهرة غير طبيعية ذات أبعاد خطيرة متعددة، كما يقول علماء اللغة الاجتماعيون.
يقول أستاذنا الدكتور هادي نهر في كتابه (علم اللغة الاجتماعي ص51-52): “أما الثنائية اللغوية فهي ظاهرة ذات أبعاد متعددة، كل بعد منها متغير ، وترتبط درجة التغير بالمكان الذي يوجد فيه الشخص الثنائي اللغة، وبمصدر الثنائية اللغوية، وبتفوق اللغات من حيث المرتبة، وبوظيفة اللغات الاجتماعية، وتنعكس تغيرات هذه الابعاد على الفرد واللغة والمجتمع معاً.
وبغض النظر عن أسباب هذه الثنائية اللغوية، فإننا نرى ضرورة أن تعمل الشعوب والأمم على الاستقلال اللغوي كما هي تعمل على الاستقلال السياسي والاقتصادي، لاننا لا يمكن أن نتصور شخصية قومية لأمة من الأمم، أو لشعب من الشعوب له مقوماته ومعطياته الحضارية، وله إمكانية التفوق العلمي والأدبي في ظل ثنائية لغوية، باعتبار أنّ التعدد اللغوي يتعارض والنهضة الحضارية، على الرغم من أنّ أمر النهوض الحضاري لأمة من الأمم لايتعلق باللغة الأم نفسها من حيث كونها لغة، وإنما يتعلق الأمر بأهل تلك اللغة، ومدى فعلهم الحضاري ونفوذهم العلمي والأدبي، والسياسي؛ ومن هنا لا خطر على أمة عُنيت بلغتها القومية؛ لأن هذه العناية هي مفتاح الاستقلال السياسي والحضاري، والمنفذ المفضي إلى الحرية، والتفريط في مثل هذه الحقيقة يعنى ضرباً من الانحلال والضياع، وخَلْق الشخصية القلقة المسحوقة التي يمكن أن ترهن نفسها عند كل غريب، وتسلك ما يشار عليها من سبيل دون وعي أو حضور.
زيادة على ذلك فانّ الثنائية اللغوية مسؤولة عن الجمود الحضاري للمناطق التي توجد فيها، ويرى علماء النفس أنّ الثنائية اللغوية المبكرة تثير بعض الاضطرابات اللغوية لدى الافراد ، ويريد هؤلاء قولهم: إن الثنائية اللغوية قد تُنسي الفرد نهائيًا لغته الأم كما هو الحال في أغلب العائلات المهاجرة“.
ولا أتصور مجتمعاً يعيش حالةً من الثنائية اللغوية إلا تنعكس عليه هذه الثنائية في كل شيء! فستكون الثنائية لديه حاضرة في الفهم والمصطلحات والمواقف والتعاطي مع سائر قضايا مجتمعه.
وما زلنا نرى بعض المجتمعات تصر على هذه الثنائية التي كَوّنت لديه ثقافة ضحلة مغلوطة عن الحضارة والمدنية، فوجهت جل طاقاتها وإمكاناتها واهتماماتها إلى البنيان، وأغفلت الإنسان! الذي هو محور بناء الحضارة وديمومتها! فصرنا نرى تلك المجتمعات بدأت تذوب في الثقافات الوافدة إليها وتنحل فيها، ففقدت هويتها وشخصيتها، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى فقدان كيانها وكينونتها.
ختاماً …
ماسبق ينسحب على لغات البشر عامةً،أما لغتنا العربية فلا أخشى عليها من أية ظاهرة سلبية أو غير طبيعية البتة! ذلك لأنها محفوظة ماحُفظ القرآن، وإنما الخشية على مَن تنكّب العربية، وجعلها وراءه ظهرياً من الانحلال والزوال، ﴿وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَومٍ سوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ﴾ [الرعد: 11].